أطروحة الدكتوراه حول موضوع: سلطة القضاء الإداري في تقدير التعويض عن الضرر المعنوي – دراسة مقارنة

ملخص لموضوع الأطروحة:

سلطة القضاء الإداري في تقدير التعويض عن الضرر المعنوي – دراسة مقارنة

الدكتور احمد ابراهيمي

كلية الحقوق- سلا

إن الضرر المعنوي والتعويض عنه لم يكن مفهوما واضحا في بداية الأمر، وإن فهم واستيعاب ماهيته مر عبر تطورات حتى نصت عليه أغلب التشريعات الوضعية ودخل حيز التطبيقات القضائية في مجموعة من الدول، لأنه إذا كان الضرر المادي والتعويض عنه أمرا مسلما به ومحل إجماع لدى الفقه المقارن والقانون والقضاء، إلا أن الأمر يختلف فيما يتعلق بالضرر المعنوي والتعويض عنه، لأنه محل خلاف بين الفقهاء وإن كان أقل حدة بالمقارنة مع الماضي، فمنهم من يؤيده ومنهم من يعارضه، كما اختلفت القوانين الوضعية بشأنه؛ فهناك قوانين لم تنص صراحة على الضرر المعنوي كالقانون الفرنسي، وفي المقابل هناك من القوانين ما نصت عليه بشكل صريح ومباشر، مثل القانون المدني المصري وقانون الالتزامات والعقود المغربي، وهذه الاختلافات انعكست بدورها على عدم استقرار القضاء في أحكامه ولم يستقر على وتيرة ثابتة بهذا الشأن.

وقد تردد مجلس الدولة الفرنسي لإقرار مبدأ التعويض عن الضرر المعنوي على اعتبار أن الآلام لا تقوم «La douleur n’est pas chiffrable»، وهذا هو التعليل الذي كان يستند إليه مجلس الدولة الفرنسي باستمرار في قضائه للدفع بعدم التعويض عن الضرر المعنوي، الذي شايعه جانب من الفقه معتبرا أن التعويض عن الآلام لا يتفق مع الآدب في كثير من الحالات، وأن الأضرار المعنوية لا يمكن إثباتها، فالآلام -على وجه الخصوص- مسألة شخصية تختلف من فرد إلى آخر، وليس لها مظهر خارجي يجعل في حكم اليقين قيام الضرر المعنوي، ويضيفون إلى ما سبق أن التعويض مقصود به تغطية الضرر، ومن الأضرار المعنوية ما لا يكفي في تغطيته مبلغ من المال، كفقد عزيز أو الاعتداء على السمعة…بل أضافوا أنه لو سلم بضرورة تعويض الأضرار المعنوية ستطرح صعوبة عملية كالوقوع في التعسف، حينما يتم تحديد نطاق الأشخاص المتضررين، خاصة وأن الضرر المعنوي قد لا يقتصر على المتضرر المباشر فقط، وإنما غالبا ما يمتد إلى أشخاص آخرين بالتبعية نتيجة الضرر الذي أصيب به المتضرر المباشر، وهو ما يطلق عليه بالضرر المعنوي المرتد.

وفي الحقيقة إن هذه الحجج جميعها ليس فيها ما يقنع ولا تتماشى مع مبدأ التعويض العادل عن الضرر المعنوي، فالتعليل بأن الآلام لا يمكن تقويمها، وأن محاولة تقديرها ستنطوي على التعسف، يفتقد للصواب بدليل أن المحاكم القضائية درجت منذ أمد بعيد على التعويض عن الأضرار المعنوية، ولم تقف هذه الصعوبة حائلا أمامها، بل إن مجلس الدولة الفرنسي نفسه قد عوض عن الأضرار المعنوية المصحوبة بأضرار مادية، وليس هناك مبرر معقول لأن تكون الأضرار المعنوية ممكنة التقدير في هذه الحالة، وغير ممكنة التقدير فيما عداها. وأما القول بأن المال في كثير من الحالات عاجز عن تغطية الأضرار المعنوية، فمبني على لَبس في فهم الغاية من التعويض، إذ لا يقصد بتعويض الضرر المعنوي محوه وإزالته من الوجود، ولكن يقصد به أن يستحدث المتضرر لنفسه بديلا عما أصابه من ضرر معنوي، فالخسارة لا تزول، ولكن يقوم إلى جانبها كسب يعوض عنها، وعلى هذا المعنى يمكن تعويض الضرر المعنوي؛ فمن أصيب في شرفه واعتباره يستلزم أن يعوض عن ذلك بما يرد اعتباره بين الناس، وإن مجرد الحكم على المتسبب في الضرر المعنوي وإلزامه بدفع التعويض، ولو ضئيل للمتضرر، ونشر هذا الحكم، لكفيل برد اعتبار المتضرر، أما تقدير مبلغ التعويض فليس بأشد مشقة من تقدير التعويض في بعض أنواع الضرر المادي، وما على القاضي الإداري إلا أن يقدر مبلغا يكفي عوضا عن الضرر المعنوي دون غلو في التقدير ولا إسراف.

إن قضاء مجلس الدولة الفرنسي المتشدد والرافض لفكرة التعويض عن الضرر المعنوي،     لا يمكن تفسير موقفه إلا على أساس غلوه في المحافظة على المالية العامة، وذلك بحرصه على ألا يلزم الدولة بدفع مبلغ التعويض عن الضرر المعنوي، ولئن كان هذا الحرص محموداً من جانبه، ولكن المغالاة فيه هي التي تشوه؛ فالحياة البشرية لا تقوم على مجرد الاعتبارات المادية الصرفة، وإنما تقوم، قبل هذا، على الاعتبارات المعنوية والإنسانية، ولأول مرة يبدو أن المجلس متخلف عن المحاكم القضائية الفرنسية التي تعوض باستمرار عن تلك الأضرار ذاتها بصرف النظر على آثارها المادية.

وقد بدأ مجلس الدولة الفرنسي يتخلى تدريجيا عن هذا التوجه المتزمت، وأضحى يقرر التعويض عن الضرر المعنوي شريطة أن يكون مقرونا بضرر مادي، فضلا عن إقراره التعويض عن الضرر المعنوي الصرف المترتب على الآلام الاستثنائية اللاحقة بالمتضرر نفسه دون أن يشمل هذا التعويض ذوي الحقوق، كما أقر المجلس التعويض عن الضرر المعنوي الناتج عن الاعتداء على حق الملكية الأدبية أو الفنية بفرنك رمزي، فكل هذه البوادر كانت توحي بضرورة التسليم بالتعويض عن الضرر المعنوي، إذ لم يتحول مجلس الدولة الفرنسي عن موقفه المتشدد والرافض لفكرة التعويض عن الضرر المعنوي -بصفة جذرية- إلا بتاريخ 24/11/1961 في قضية «Letisserand» الذي أقر صراحة بالتعويض عن الضرر المعنوي، ولو لم يكن مقترنا بضرر مادي، أو على درجة كبيرة من الجسامة ويتم التعويض عنه بقدر مهم وليس بفرنك رمزي.

وبخلاف التعويض القضائي عن الضرر المعنوي فقد شهد المغرب تجربة العدالة الانتقالية المتجلية في هيئة التحكيم المستقلة وهيئة الانصاف والمصالحة، حيث اتسمت فيها مسطرة التعويض بالمرونة بالمقارنة مع التعويض القضائي فضلا عن ذلك فإن التعويض الصادر في المقررات التحكيمية يبقى أكثر اتساعا بالمقارنة مع التعويض القضائي، وفي ذات السياق نفسه هناك بعض التشريعات التي أسندت التعويض عن الخطأ القضائي للجنة التعويض وأخرجتها من سلطة القاضي الإداري.

وعليه، تم صياغة الإشكالية المركزية التي تحكم هذا البحث على النحو التالي: إلى أي حد استطاع الإجتهاد القضائي الإداري إقرار مبدأ التعويض عن الضرر المعنوي في إطار القضاء الشامل، وما مدى سلطة القاضي الإداري في تقدير التعويض عن هذا الضرر؟

القسم الأول: نظرية الضرر المعنوي والتعويض عنه: النشأة وتطور الأسس

يعد الضرر المعنوي شرطا أساسيا لقيام أي مسؤولية، بما في ذلك المسؤولية الإدارية. غير أنه وإن كان الضرر ركنا أساسيا ولازما لاستحقاق التعويض، فإن هذا ليس معناه أنه يتقرر التعويض عند حدوث الضرر المعنوي، مهما كانت درجته وحجمه، وإنما المتفق عليه فقها والمسلم به قضاءً أن هناك مجموعة من الشروط يجب توافرها قصد إقرار التعويض عنه.

وإذا كان الضرر الناشئ عن الفعل الضار واستحقاق التعويض عنه مرهوناً بوقوعه على الضحية مباشرة فيصيبه في ذمته أو في جسمه أو في اعتباره وشرفه، فهذا لايمنع من أن يتعدى أثر هذا الفعل الضار شخصا واحدا، بل يتعداه -أحيانا- ليصيب الأغيار سواء أكانوا أشخاصا طبيعيين أو معنويين عبر الانعكاس أو الارتداد من المصاب أو المتضرر الأصلي، ويكون من حق المتضرر بالارتداد طلب التعويض عن الضرر الذي أصابه شخصيا نتيجة الضرر الذي أصاب خلفه.

ونظرا للطبيعة الخاصة للضرر المعنوي، فقد تردد الفقه طويلا بخصوص الاعتراف بالتعويض عنه، على اعتبار أن التعويض يتمثل حسب رأيه في جبر وإصلاح الضرر اللاحق بالذمة المالية للمتضرر ولا يطال التعويض عن الضرر المعنوي اللاحق بالذمة المعنوية، وأن التعويض المادي لا يتواءم مع ما تقتضيه مبادئ الأخلاق، فليس من المقبول أن توضع مشاعر وعواطف وشرف وكرامة الأشخاص محلا للتعويض المادي. لكن بعد تطور الرأي الفقهي تأكد انتصار الرأي القائل بإمكان التعويض عن الضرر المعنوي.

ولا مناص من القول إن جل التشريعات أقرت مبدأ التعويض عن الضرر المعنوي في إطار المسؤولية الإدارية، وقد ورد ذلك بشكل ضمني في القانون المدني الفرنسي الذي يعد موقفه ساكتا عن النص بشأن الضرر المعنوي والتعويض عنه؛ حيث وضع قاعدة عامة في تعويض الضرر دون أن يحدد نوعه، في حين أن جل التشريعات نصت على التعويض عن الضرر المعنوي، كما هو الشأن بالنسبة  للقانون المدني المصري الذي ارتقى بالضرر المعنوي إلى مركز الضرر المادي من حيث إمكان التعويض عنه، وكذلك تبنى المشرع المغربي مسؤولية الدولة عن أعمالها الضارة وأقر مبدأ التعويض عن الضرر المعنوي، وخول للمتضرر حق المطالبة بالتعويض عنه، وذلك عملا بمقتضيات الفصلين 77و78 من قانون الالتزامات والعقود الذي يعتبر من بين التشريعات العربية السباقة إلى تنظيم الضرر المعنوي ضمن تشريعاته الداخلية.

ومن جهة أخرى، فإن موقف القضاء الإداري، وبالأخص الفرنسي، عرف بعض التطورات ومر بمراحل من أجل إقراره خصوصا في شقه المتعلق بالألم المعنوي. أما القضاء الإداري المصري، وكذا المغربي، فقد لوحظ أنهما يعترفان بالضرر المعنوي الموجب للتعويض، كما أنهما لا يفرقان بين الضرر المادي والضرر المعنوي بخصوص مسألة التعويض عنهما.

القسم الثاني: التطبيقات القضائية في منازعات التعويض عن الضرر المعنوي

إن القاضي الإداري يتمتع بسلطة واسعة في تقدير التعويض عن الضرر المعنوي الذي يصيب الأشخاص الطبيعية والمعنوية على حد سواء، على اعتبار أن مسألة التقدير تعتبر من مسائل الواقع التي لا تخضع لرقابة محكمة النقض كأصل عام؛ غير أن استقلال القاضي الإداري في تقدير التعويض لا يعني أنه يقدره حسب هواه، بل يتعين عليه مراعاة مجموعة من الضوابط أثناء تقديره للتعويض عن الضرر المعنوي، حيث إن مراعاة هذه العناصر من الأمور التي يخضع بشأنها لرقابة محكمة النقض.

ولئن كان القاضي يمتع بسلطة مطلقة في تقدير التعويض وله الحرية في اختيار التعويض المناسب لجبر الضرر، فيمكنه -تبعا لذلك- أن يحكم بتعويض نقدي أو بتعويض عيني طالما يتلاءم مع طبيعة الضرر، كما يمكنه أن يحكم بتعويض نقدي في شكل مبلغ إجمالي أو في شكل إيراد عمري. غير أنه يستفاد من التطبيقات القضائية الصادرة عن القضاء الإداري المغربي التي قضت بالتعويض عن الضرر المعنوي في إطار القضاء الشامل أنها استقرت على دفع التعويض في شكل مبلغ مادي إجمالي، الشيء الذي قد لا ينسجم -في بعض الحالات- مع مبادئ التعويض العادل، بخلاف القاضي المدني الذي يمارس سلطته بشكل أوسع بالمقارنة مع القاضي الإداري ويقضي بالتعويض على شكل إيراد عمري وبالتعويض العيني.

ومن جهة أخرى، فإن الضرر المعنوي نادرا ما يبقى ثابتا ومستقرا من يوم حدوثه، وغالبا ما يتغير فيتردد بين التفاقم أو التقلص، على اعتبار كون طبيعة الضرر المعنوي قد يخف وقد يتفاقم من حالة إلى أخرى، وهذا ما تكون له نتائج مؤثرة على التعويض؛ فمحكمة الموضوع لا تملك سلطة مراجعة التعويض المحكوم به بشكل تلقائي، وإنما يتم ذلك بناءً على طلب أحد أطراف الدعوى؛ بمعنى أنه يمكن للمتضرر -في حالة تفاقم الضرر المعنوي اللاحق به- أن يلتمس من المحكمة تعويضا إضافيا في حالة تزايد الضرر المعنوي وهو لا يعتبر مراجعة للحكم الأول، ومن تم، ليس خرقا لمبدأ قوة الشيء المقضي به لأن موضوع الدعوى جديد؛ فهو ضرر دخل نتيجة التفاقم، وإما أن تتقدم الجهة المسؤولة عن إحداث هذا الضرر بطلب خفض مبلغ التعويض عن الضرر المعنوي في حالة تناقصه إلا أن هذه التغيرات التي تطرأ على الضرر سواء أكان في اتجاه النقصان أو في اتجاه التفاقم قد تحصل قبل صدور الحكم المحدد للتعويض وقد يستمر أو يحصل بعد صدوره شريطة أن يكون الحكم بالتعويض قابلا للطعن بالطرق العادية أو غير العادية ما دام التعويض عن الضرر المعنوي في إطار القضاء الشامل يدفع بشكل إجمالي، وليس في شكل إيراد عمري.

وينبغي التأكيد أنه بعد تحليل مجموعة من الأحكام والقرارات القضائية الصادرة عن محاكم الموضوع التي قضت بالتعويض عن الضرر المعنوي، نلاحظ التباين الصارخ في مقدار وقيمة التعويض المحكوم به لفائدة المتضررين بين قضية وأخرى ومن محكمة إلى أخرى وأكثر من ذلك يطال الاختلاف القضائي مبلغ التعويض عن الضرر المعنوي في قضايا متشابهة، فمن غير المقبول أن تسهم السلطة التقديرية للقاضي الإداري في هذا الاختلاف إلى درجة أصبحت تُنعت بعض المحاكم بالكرم والسخاء وبعضها بالبخل والتقتير وذلك سواء أكان الضرر المعنوي مترتبا على ضرر مادي أو مستقلا عنه.

ومن جهة أخرى، تعتبر هيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي اللبنة الأولى في مسار العدالة الانتقالية بالمغرب إذ أسند لها المشرع مهمة تقدير التعويض لمستحقيه، ويشكل هذا الأمر اعترافا مسبقا من الدولة بوجود خطأ من جانبها أحدث ضررا للغير ويستوجب التعويض عنه، وقد اعتمدت الهيئة، في إقرارها للتعويض، على قواعد العدل والانصاف التي  تعتبر أكثر اتساعا بالمقارنة مع القواعد القانونية في تقدير التعويض من جهة، وفي إثبات الواقعة الملزمة للتعويض من جهة أخرى، كما تعتبر تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة حلقة مهمة ضمن سلسلة تسوية ماضي الانتهاكات، وتعزيز خيار الانتقال الديمقراطي ببلادنا، حيث باشرت الهيئة معالجتها لموضوع جبر الأضرار، لارتباطها الوثيق بالكشف عن الحقيقة وبالتحديد النوعي للانتهاكات المترتبة عليها، فضلا عن مكانتها في مسلسل إنصاف وجبر أضرار الضحايا أو ذوي حقوقهم.

وعليه، نؤكد على ضرورة أن يبقى التعويض عن الضرر المعنوي خاضعا للسلطة التقديرية للقاضي الإداري ولا ينبغي أن تُسلب منه من طرف المشرع لما تكفله من ضمانات جوهرية في تحقيق التعويض العادل والمناسب للمتضررين، على العكس من ذلك لا بد من تدخل المشرع لصون السلطة التقديرية للقاضي الإداري وإحاطتها بسياج من الحماية القانونية عن طريق دحض كل محاولات التعديل التي من شأنها أن تحول التعويض عن الضرر المعنوي من التعويض القضائي الذي يتمتع القاضي الإداري وهو يبت في قضاياه بسلطة تقديرية واسعة إلى التعويض القانوني الذي من شأنه أن يقيد ويحد من نطاق هذه السلطة وجعله مجرد آلة لحساب التعويضات.