أطروحة الدكتوراه حول موضوع:”الحقوق الثقافية الأمازيغية بالمغرب على ضوء الآليات الأممية لحقوق الإنسان”

الدكتور عبد الصمد المجوطي

ملخص أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام في موضوع: “الحقوق الثقافية الأمازيغية بالمغرب على ضوء الآليات الأممية لحقوق الإنسان”

من إعداد الطالب الباحث: عبد الصمد المجوطي

بإشراف الأستاذ: د. محمد سعدي

المكان: كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – وجدة

التاريخ: 16 يناير 2021.

إن اختيار “الحقوق الثقافية الأمازيغية بالمغرب على ضوء الآليات الأممية لحقوق الإنسان” موضوعا لهذه الأطروحة، أملته اعتبارات متعددة، يأتي في مقدمتها محاولة رصد خلاصة التدبير الرسمي للحقوق الثقافية الأمازيغية، والتأثير المحتمل للسياق الدولي وخاصة الآليات الأممية في تشكل معالم هذا التدبير. إذا ما صح اعتبار الأمازيغية لغة وثقافة بأنها تدخل في إشكالية عامة تترجم النزاع بين الواقع والقانون، بين واقع اجتماعي وثقافي في شمال إفريقيا، وبين مؤسسات الدولة التي تدبره وتضبطه في إطار سياساتها، لم يشكل على الأرجح مجالا للدراسة الأكاديمية بشكل واسع، بالرغم من الطروحات الكثيرة والمتعددة التي صبغت هذا الموضوع خلال العقود الأربعة الأخيرة على الأقل. لذلك، يحضى هذا الموضوع في نظرنا بأهمية خاصة، ليس من حيث راهنيته وحضوره المجتمعي فقط، وإنما سياق المستجدات الدستورية التي حملها دستور 2011 وبشكل خاص التحولات التي سجلت بفعل ترقية اللغة الأمازيغة إلى لغة رسمية لأول مرة في الدساتير المغربية المتعاقبة.

في تأكيد لما يتسم به الحقل الثقافي المغربي، من تعددية منابعه وروافده ومكوناته وتجلياته، وكذا بتنوع الخطابات والتصورات التي تعكسه في صوّر منظومات فكرية وأيديولوجية، تمثل كل منها جزء من الفضاء العمومي سواء السياسي أو المدني، والذي ينعكس بدوره على المُدخلات الموجهة لصياغة وإقرار التدابير المتخذة من الدولة بهذا الشأن. يمكن التمييز بين منظورين في معالجة سؤال التعدد والتنوع الثقافي، وذلك حسب محدد أساسي وهو طبيعة وشكل الأنظمة السياسية والاقتصادية، حيث نجد المنظور الليبرالي الذي يترك قانون العرض والطلب كمحدد للاختيارات الفردية والجماعية، في مقابل منظور الدولة التدخلية التي تعمل على ضبط وتقنين أنساق التعبيرات الثقافية، وفق منطق سلطوي يتحكم في اشتغالها.

ويمكن اعتبار بعض مضامين الدستور الجديد مدخلا مهملا لدراسة الحقوق الثقافية بنصّه على جملة من المقتضيات ذات العلاقة الوطيدة بهذه الحقوق منها أساسا إقرار الأبعاد المتعددة للهوية المغربية، وترسيم الأمازيغية كلغة رسمية للدولة. بالإضافة لدسترة المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومجلس وطني للغات والثقافة المغربية، وقبل ذلك إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وهو ما يؤكد أن تدبير الحقوق الثقافية واللغوية قد يعرف تحولات جوهرية. هذا السياق الوطني المأمول، تزامن مع سياق دولي انفتح بشكل واسع على موضوع الحقوق الثقافية من خلال جملة من القرارات والاتفاقيات. لذلك، من شأن الدراسات الأكاديمية المساعدة على تملك أدوات الانتقال إلى دولة المواطنة التي تُحترم فيها كل المكونات المجتمعية.

كما تبرز القيمة العلمية لهذا الموضوع من خلال الأهداف التي توخينا تحقيقها من هذه الأطروحة، في مقدمتها هدف عام يرصد حصيلة التدبير الرسمي للحقوق الثقافية الأمازيغية بالمغرب على ضوء التفاعل مع الآليات الحقوقية الدولية. فيما تندرج في ضوء هذا الهدف العام أهدافا فرعية، تستهدف رصد طبيعة الحقوق الثقافية باعتبارها جزء لا يتجزئ من حقوق للإنسان، ثم الكشف عن تفاعل المغرب مع الآليات الحقوقية الدولية على مستوى موضوع احترام الحقوق الثقافية، فضلا التعرف على التعقيدات التي تثيرها الجهود الوطنية والدولية لتدبير ملف الحقوق الثقافية، والمطالب المتنامية لعلاج هذا الملف، بالإضافة إلى تسليط الضوء على طبيعة تدبير الدولة المغربية لقضية الحقوق الثقافية الأمازيغية، دون إغفال محاولة تقييم مقاربة الدولة ومعالجتها لملف الحقوق الثقافية الأمازيغية، وأخيرا تقديم مرجع مُؤطر بقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان يجعل الحقوق الثقافية في صلب السياسات العمومية للدولة. وأخيرا، محاولة تقديم مرجع مُؤطر بقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان يجعل الحقوق الثقافية في صلب السياسات العمومية للدولة.

ويُساءل البحث إشكالية مستجدة في مجال دراسات حقوق الإنسان بالمغرب، تتمحور حول مدى إسهام تفاعل المغرب مع الآليات الأممية لحقوق الإنسان في احترام التزاماته بشأن الحقوق الثقافية الأمازيغية.

وتَوخّيا للإحاطة العلمية الشاملة بالبحث، أملت طبيعة الموضوع دراسته من خلال خطة ومنهجية ترتكز أساساعلى:

أولا تحديد مجال الدراسة من خلال محاولة تقديم تصور عام للإطار المفهومي والتصوري للحقوق الثقافية.

ثم السياق العام لبروز خطاب للحقوق الثقافية الأمازيغية والمقترن في السياق المغربي بإسهامات فردية، وعمل جماعي، خلقت نقاشا عموميا بخصوص عدد من القضايا بينها الحقوق الثقافة.

تحليل التقارير التي يقدمها المغرب أمام الهيآت الأممية المعنية بحقوق الإنسان، خاصة في جانب احترام الحقوق الثقافية الأمازيغية، ورصد التوصيات الصادرة عن الآليات الأممية بخصوصها، ومدى تفاعل المغرب معها، وكذا التقارير الموازية التي تقدمها المنظمات غير الحكومية بخصوص الحقوق الثقافية الأمازيغية. ثم حدود مختلف الآليات الأممية في إقرار وضمان الحقوق الثقافية الأمازيغية.

لنصل لخلاصة ترصد حصيلة تفاعل المغرب مع الآليات الأممية في شأن الحقوق الثقافية الأمازيغية.

وقد شمل البحث الفترة الممتدة من العشرية الأخيرة من القرن الماضي أي بداية التسعينيات وبالأخص بداية من سنة 1991، وهي الفترة المتسمة ببداية الانفتاح على موضوع حقوق الإنسان بشكل عام والدينامية التنظيمية التي سيعرفها موضوع الحقوق الثقافية الأمازيغية بالمغرب بشكل خاص؛ ولا سيما صدور ميثاق أكادير. إلى غاية سنة 2019. والإشارة وإن بشكل مقتضب، لإرهاصات حضور الموضوع في تفاعل المغرب مع الآليات الأممية لحقوق الإنسان خلال ثمانينيات القرن الماضي.

واقتضى التمكين المنهجي لمسألة حقوق الإنسان بشكل عام، والحقوق الثقافية بشكل خاص، اعتماد جملة من مناهج البحث العلمي، بحيث سمح لنا المنهج الاستقرائي من رصد توجهات سياسة المغرب في الموضوع، عبر دراسة كل تقرير من تقارير المغرب والآليات الأممية والتقارير الموازية، منفردة، من أجل الوصول لخلاصات عامة.

والمنهج التاريخي من مقاربة حصيلة المغرب في مجال الحقوق الثقافية الأمازيغية، من خلال إبراز الديناميات التي عرفها تدبير هذه القضية، والتحولات التي عرفها موقف الرسمي بهذا الخصوص. ومكننا المنهج المقارن وبشكل خاص في بعده الإقليمي من استنتاج وتبيان مظاهر التأثير والتأثر المتبادلين في تدبير الحقوق الثقافية الأمازيغية في الفضاء المغاربي.

ومن أجل تيسير مقروئية البحث، ووضوح التصورات والحجج بشأنه، ومن أجل تملك الأدوات المفاهيمية التي تم توظيفها أثناء تحليل أجزاء هذا البحث، وبالنظر لحداثة موضوع الحقوق الثقافية، آثرنا تقسيمه إلى فصل تمهيدي وقسمين؛ قارب الفصل التمهيدي الإطار المفهومي للحقوق الثقافية، وانتبهنا فيه إلى صعوبة تحديد تعريف موحد ومعايير دقيقة لهذه الحقوق، واكتفينا باستعراض الحقوق الثقافية الأكثر تواترا وحضورا لضرورات منهجية. وقمنا برصد للآليات الأممية لحقوق الإنسان ومهامها وآليات اشتغالها، وبشكل خاص، عملية فحص التقارير الدورية للدول الأطراف، وإصدار التوصيات والملاحظات النهائية، والدور المحتمل لمنظمات المدنية الوطنية والدولية في سيرورة بناء العمل الرقابي لهذه المنظومة، والسياق العام لبروز خطاب الحقوق الثقافية الأمازيغية، والذي يُرجع لسياق وطني متسم بمحاولات استبعاد وإقصاء مكون من مكونات الثقافة الوطنية، ودولي نتيجة التحولات العميقة التي شهدها العشرية الأخيرة من القرن الماضي. بينما تم في القسم الأول استعراض تطور مضمون الحقوق الثقافية الأمازيغية في الممارسة الاتفاقية للمغرب، بدء بالإرهاصات الأولى بهذا الشأن والتي غلب عليها طابع التردد وعدم وضوح الرؤية بشأنها، وخاصة في موضوع الأبعاد والروافد المتنوعة للهوية الوطنية، وإدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية والإعلام، انطلاقا من مقترب الحق في الوصول والمشاركة في الحياة الثقافية من جهة، ومن جهة أخرى، ضمان حق الولوج إلى الحياة المدنية والتنموية بدون تمييز؛ وبشكل خاص حماية وتنمية هوية الطفل الثقافية، وإقرار حق الجميع في تنمية جهوية عادلة ومتوازنة. كما أنه لا محيد عن مقاربة مؤسساتية فاعلة في تنزيل تدابير إدماج الأمازيغية في مجالات الحياة العامة وخاصة في منظومة العدالة، والأثر المحتل لإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في النهوض بالحقوق الثقافية.

وانطلاقا من الدينامية التي عرفتها المنظومة الأممية لحقوق الإنسان وأثرها المحتمل في تعزيز الحقوق الثقافية، فقد خصص القسم الثاني لدراسة من هذا البحث إلى دراسة ميكانزمات اشتغال الآليات التي تبلورت مع الدينامية التي أحدثها مجلس حقوق الإنسان وبشكل خاص آليتي الاستعراض الدوري الشامل، والإجراءات الخاصة، والدور الترافعي لمنظمات المجتمع المدني التي أضحت أكثر فاعلية بفعل عدد من المداخل وخاصة عبر التقارير الموازية، في التأثير على الفاعلين في حماية الحقوق الثقافية. هكذا، سيقودنا تحليل الحقوق الثقافية إلى توصيف أثر الآليات الأممية لحقوق الإنسان في حماية الحقوق الثقافية الأمازيغية من خلال التفاعل الرسمي مع التوصيات الصادرة عن هذه الآليات، والتأثير المحتمل للممارسة الاتفاقية على المستويين المعياري والمؤسساتي، واستشراف تحديات تجويد التدبير الرسمي للشأن الأمازيغي. وسنختم بلازمة تعود بنا إلى الإشكالية المركزية لهذا البحث من خلال التوقف عند مدى انسجام الإجراءات المتخذة من طرف المغرب في مجال الحقوق الثقافية الأمازيغية مع التزاماته بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.

إن المقاربة التحليلية والتفكيكية لتفاعل المغرب مع المنظومة الأممية لحقوق الإنسانوأثرهافي تعزيز الحقوق الثقافية الأمازيغية والتي تم اعتمادها في هذا البحث، واستعراض الدور المحتمل للدينامية التي عرفتها المنظومة الأممية لحقوق الإنسان على مسار الشأن الأمازيغي بالمغرب، استناد لمرجعيات عدة أبرزها المعايير الدولية المتعلقة بالحقوق الثقافية، ومستخلصات التجربة المغربية في تدبير هذه القضية، بالإضافة للدراسات والأبحاث التي أنتجت بهذا الخصوص، مكننا من وصف هذا الأثر في شكل خلاصات نهائية وهي كالتالي:

أولا: أن الموقف الرسمي بخصوص الحقوق الثقافية الأمازيغية عرف تحولات عدة، فرضتها سياقات وطنية وإقليمية ودولية، فبعد مرحلة التردد وغياب تصورات لإشكالية التعدد اللغوي والتنوع الثقافي، والاعتراف بالواقع التعددي للمجتمع، سيبرز انفتاحا نسبيا اتجاه هذه الحقوق مع بداية العشرية الأخيرة من القرن الماضي، أسهمت الدينامية المدنية بشكل بالغ في تبلور الاهتمام الرسمي بالحقوق الثقافية الأمازيغية في نظرنا، تجسد بالانتقال من غموض الموقف الرسمي بشأن الأمازيغية، إلى نهج قائم على تدبيرها في إطار مشروع المجتمع الديمقراطي المعترف بالأبعاد المتعددة للهوية الوطنية.

وأسهمت الدينامية المدنية التي عرفتها مرحلة التسعينات بشكل بالغ في تبلور الاهتمام الرسمي بالحقوق الثقافية الأمازيغية في نظرنا، فالمرحلة ستعرف إصدار أول وثيقة مطلبية مشتركة بين الجمعيات المهتمة بالأمازيغية وهي ميثاق أكادير سنة 1991، كما ظهرت في نفس الفترة توجهات نحو تدويل المطالب الأمازيغية من خلال المشاركة في المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان بفيينا سنة 1993. وفي نفس السنة سيظهر بمناسبة تقديم التقرير الأول المقدم من طرف المغرب أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، تطبيقا للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1993، استعمال تعبير الحقوق الثقافية لأول مرة في تقرير دوري أمام الآليات الأممية.

غير أن هذا التدليل النظري بخصوص المكانة التي تخص بها الدولة الحقوق الثقافية الأمازيغية، تظهر وجود هوة بين خطاب التقارير الوطنية والأنساق السلطوية التي تتحكم في تدبير هذا الملف. من تجلياته بطئ تنزيل التدابير المتخذة لصالح الأمازيغية، بالرغم من التحولات الهامة والمرتبطة أساسا بالحماية الدستورية والمؤسساتية.

ثانيا: ثبات المغرب على موقفه الرافض لإدراج الحقوق الثقافية الأمازيغية ضمن مقترب الأقليات أو الشعوب الأصلية كما تنحوا إلى ذلك الآليات الأممية في كثير من الأحيان. من منطلق أن الأمازيغية مكون أساسي من مكونات الهوية الوطنية، وأن السياسة التي ينهجها المغرب اتجاه الحقوق الثقافية الأمازيغية تندرج في إطار مشروع المجتمع الديمقراطي القائم على بناء الدولة العصرية القائمة على المساواة والتكافل الاجتماعي والوفاء للروافد الأساسية للهوية الوطنية.

ثالثا: اختار المغرب في هيكلة الحقل الثقافي الأمازيغي الخيار المؤسسي، وتجسد هذا الاختيار بإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001، كمؤسسة استشارية أوكلت إليها مهمة الإعداد لإدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية وفي مجالات؛ الإعلام وحفظ وتنمية اللغة والثقافة الأمازيغيتين. إلا انه يُسجل وجود عائقين أساسيين مفترضين لعدم نجاح هذه المؤسسة في تحقيق جميع الأهداف التي أنشأت لأجلها؛ الأول وجود ترسانة قانونية وتنظيمية سابقة تستبعد الأمازيغية في عدد من المجالات الحيوية، ووجود مقاومة معلنة وغير معلنة كما هو الشأن بالنسبة للعراقيل التي يضعها بعض المسؤولين اللامركزيين لقطاع التعليم، وغياب هيكل إداري داخل المعهد للتواصل مع القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية المعنية بتنزيل الأوراش التي تهم الأمازيغية، وعامل ثاني يتمثل في غياب استقلالية المعهد، وعدم انسجامه مع المبادئ المتعلقة بالمؤسسات الوطنية أو ما يصطلح عليه بمبادئ باريس، وخاصة فيما يتعلق بتشكيل أعضائها، وارتكازها على المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، وموارد مالية كافية، مما أضعف دوره في متابعة تنفيذ الأوراش المعنية بالنهوض بالأمازيغية.

ولتجاوز تعدد المؤسسات والمحاورين بخصوص قضية التعدد اللغوي اهتدى المشرع الدستوري إلى إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، بمقتضى الفصل الخامس من الدستور، بصفته مؤسسة وطنية مرجعية في مجال السياسة اللغوية والثقافية، مما يشكل توجهاجديدا في مَأسسة التعدد اللغوي والتنوع الثقافي.

ويعتبر إحداث مؤسسة وطنية للغات والثقافة المغربية، في الشق الذي يهم الحقوق الثقافة الأمازيغية، بمثابة اعتراف بمحدودة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في تتبع الأوراش المفتوحة، وبشكل خاص بطئ وتراجع إدماج الأمازيغية في المدرسة العمومية، إلا أن اللافت هو أن مشروع القانون التنظيمي للمجلس، والذي يشكل المعهد جزء من هيكلته الجديدة، احتفظ بنفس الصلاحيات والمهام التي حددها له ظهير 2001، مما قد يؤدي إلى إنتاج نفس التجربة، في غياب مصالح لا مركزية للمؤسسة الجديدة تقف وتتبع بشكل ميداني للمهام الموكولة إليها.

رابعا: في تطور لافت وتاريخي وغير مسبوق في تدبير التعدد اللغوي في المغرب ومنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، شكلت سنة 2011 علامة فارقة في هذا السياق، من خلال دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية؛ ومعنى اللغة الرسمية، هو حضورها المتواتر في التداول والاستعمال داخل مؤسسات الدولية، ومرافقها ودوائرها الحكومية. وتجسيد الطابع الرسمي للغة الأمازيغية هو تعزيز آليات التواصل والاتصال بها في مختلف الخدمات الرسمية؛ من مراسلات إدارية وترجمة للوثائق الرسمية، وهو إقرار دستوري بقابلية هذه اللغة لاستيعاب البعد الوظيفي العملي الهام.

ولقد خص الدستور الفصل الخامس ببنوده الستة لتشريع وتقنين الموارد المشكلة للحق الثقافي واللغوي بالمغرب. إلا أن القانون التنظيمي المجسد لرسمية هذه اللغة يثير عدد من الملاحظات والاستنتاجات.

فقي الإطار المفهومي، تنص الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون التنظيمي رقم 26.16 على أنه “يقصد باللغة الأمازيغية في مدلول هذا القانون التنظيمي مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناط ص المغرب، وكذا المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة. ويعتمد حرف تيفيناغ لكتابة وقراءة اللغة الأمازيغية”.

مما يستفاد، من مبادئ وأحكام الدستور، أن الدستور استعمل، من جهة أولى، عند إقراره بالطابع الرسمي للغة الأمازيغية، صيغة المفرد لا الجمع، واعتبر اللغة الأمازيغية، من جهة ثانية، رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء، مما يجعل حق استعمالها والتواصل بها، حقا شخصيا مكفولا للمواطنات وللمواطنين، دون استثناء أو تمييز أو تقييد بمنطقة جغرافية أو وضع معين، وأرسى، من جهة ثالثة، مبدأ تساوي اللغتين العربية والأمازيغية في طابعهما الرسمي، وميز، من جهة رابعة، بشكل واضح، بين مستوى من الالتزام يهم اللغة الأمازيغية الرسمية، يتمثل في تفعيل طابعها الرسمي وإدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية وحمايتها وتنميتها، وبين مستوى ثان من الالتزامات، نص عليه في الفقرة الخامسة من الفصل الخامس، يتعلق بحماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة بالمغرب. وإنه، بالإضافة إلى ما تقدم، فإن التنصيص على “اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة بالمغرب” والمعنية بعمل الدولة على حمايتها، أتى في الفقرة الخامسة من الفصل الخامس من الدستور غير مقرون باللغة الأمازيغية وحدها.

وأن مدلول اللغة الأمازيغية المخول لها طابع الرسمية، والمعنية بمجال القانون التنظيمي المعروض، ينصرف إلى اللغة الأمازيغية المعيارية الموحدة، المكتوبة والمقروءة بحرف تيفيناغ، والمكونة من “المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة”، ومن مختلف التعبيرات الأمازيغية المحلية، بشكل متوازن ودون إقصاء، والتي لا تتخذ طابع المكونات اللغوية القائمة الذات، ولا تمثل بدائل عن اللغة الأمازيغية الرسمية، وإنما روافد تساعد على تشكيلها، على النحو المنصوص عليه في المادة الثانية (البند الثالث) من القانون التنظيمي المعروض.

إلا أن المشرع لم يأخذ بهذا التفسير كما يظهر عند مقارنة مشروع النص المحال للمحكمة الدستورية من قبل رئيس الحكومة بتاريخ 16 غشت 2019 والنص المنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 26 سبتمبر 2019، واكتفى بما اعتبرته المحكمة الدستورية بأنه ” ليس في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة الأولى من القانون التنظيمي ما يخالف الدستور”.

سيشكل ترسيم الأمازيغية كلغة رسمية في الدستور الجديد تحولا جوهريا في تدبير الدولة لمسألة اللغات بالمغرب، إلا أن تثمين هذا المقتضى الدستوري الهام، قابله، بطئ سيرورة تفعيلا للطابع الرسمي للأمازيغية؛ فبالرغم من التحول الذي تحققت بفعل الحماية القانونية والدستورية، إلا أن الصيغة التي ورد بها ترسيم الأمازيغية في الدستور، والذي رَهَنَ تفعيلها لقانون تنظيمي، أدى إلى نوع من محدودية النص الدستوري في مقابل التمثلات التي تتشكل لدى الفاعلين الأساسيين في الحياة السياسية، بحيث عرف مشروع القانون تجاذبات سياسية أظهرت نزوحا نحو أسبقية الممارسة السياسية القائمة على التوافق، على نص الدستور، بمبرر الطبيعة الحساسة لموضوع الهوية وأثره على التماسك الاجتماعي. وهو ما تُرجم في البطئ الشديد في إخراج القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، الذي استغرق ولايتين حكوميتين، وبقي حبيس توافقات استبعدت منطق الحقوق لصالح منطق الصراع والتنافس السياسي والإنتخابي لدى النخبة الحزبية، مما أجل كل الأوراش الرامية لتطوير اللغة والثقافة الأمازيغيتين.

خامسا: عرف مسار إدراج اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية إشكالات عميقة وبنيوية أثرت على العملية برمتها، فلم يستقر ورش تدريس الأمازيغية على تصور واضح منذ بداية التجربة سنة 2003، بالرغم من أن العملية مدعومة بنصوص مرجعية هامة، تتقدمها مرجعية سياسية متمثلة في الخُطَب الملكية، وتربوية من خلال الأدوات البيداغوجية اللازمة لعملية التدريس، وتنظيمية من خلال اتفاقية الشراكة بين المعهد والوزارة الوصية على التعليم التي ترجمت في عدد من المذكرات التوجيهية والتأطيرية، وأخيرا بالوضع الدستوري الجديد الذي أعطى للأمازيغية وضعية اللغة الرسمية، إلا أن ضعف الالتزام بمختلف هذه المرجعيات من طرف المتدخلين في عملية إدماج اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية، أدى إلى عدم تحقيق الهدف العام الذي حدد لها والمتمثل في تعميمها أفقيا وعموديا في أجل زمني لا يتعدى سنة 2010.

وقد حاول المشرع تدارك الوضع المختل للأمازيغية في المنظومة التربوية، عبر مدخل القانون الإطار المتعلق بالتربية والتكوين والبحث العلمي الذي جعل أحد مرتكزات الهندسة اللغوية المعتمدة في المناهج البرامج التعليمية، إرساء تعددية لغوية بكيفية تدريجية ومتوازنة تهدف إلى جعل المتعلم الحاصل على الباكالوريا متقنا للغتين العربية والأمازيغية، ليُحدد لأول مرة الهدف الاستراتيجي من تعلم الأمازيغية. وهو منطق تجاوز مخرجات الرؤية الاستراتيجية للإصلاح التي قدمها للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي للفترة ما بين 2015-2030، التي لم تقدم أي تصور بشأن وضع اللغة الأمازيغية في المدرسة المغربية.

سادسا: يسجل البحث عوائق عدة لإعمال الحقفي المشاركة في الحياة الثقافية والتنموية في ضوء التفاعل مع الآليات الحقوقية الأممية؛ ولا سيما فيما يتعلق؛

بغياب صيغ الثنائية اللغوية في بعض المؤسسات الرسمية، الذي يؤدي إلى الحد من الوصول المتساوي والكامل لكل أفراد المجتمع من منافعها، في ظل عدم إحداث الدولة لهيئات من المترجمين بفضاءات العدالة والإدارات والمستشفيات وسائر الأماكن العمومية، كي يترجموا فيها عن المواطنين غير العارفين للعربية أو غير المتمكن من الإفصاح بها. حتى لا يُثنى أولئك المواطنون عن قضاء حاجاتهم لدى مختلف السلطات. أو يُمنعوا من الاستشفاء. أو ينكّصو عن رفع دَعوى وهم مظلومون. وهو الموضوع الذي كان مثار العديد من الملاحظات والتوصيات الصادرة عن مختلف الآليات الأممية، والتي انتقدت بشكل خاص انعدام صيغ ثنائية اللغة في النظام القضائي والإداري المغربي.

إلا أنه ومن المستجدات القانونية الهامة في هذا السياق، ما نص عليه القانون التنظيمي المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية في المادة  30 منه، من كفالة حق الناطقين بالأمازيغية في استعمال هذه الأخيرة والتواصل بها في مختلف مراحل التقاضي.

وفي موضوع الهوية انتهينا في فحص التفاعل مع الآليات الأممية في موضوع الهوية الثقافية، وجود مرحلتين في التدبير الرسمي لهذه المسألة، وهما مرحلتين مرتبطتين في نظرنا بانتقال السلطة في المغرب، مرحلة حكم الملك الراحل الحسن الثاني والتي تميزت بعدم وضوح بيّن للموقف الرسمي بخصوص الهوية الوطنية المغربية، تجلت على المستوى الدستوري الذي سكت على الموضوع ولم يذكر في أي من التجارب الدستورية المغربية، ومرحلة ما بعد 2001 التي جسدت الاعتراف بتعدد الروافد المشكلة للهوية المغربية، وهو ما  ترجم بوضوح التصور الرسمي بخصوص الهوية الوطنية في التفاعل مع الآليات الأممية خلال هذه المرحلة، كما جرى التأكيد عليه بمناسبة تقديم التقريران الدوريان السابع عشر والثامن عشر، الذين عرضا أمام لجنة القضاء على التمييز العنصري سنة 2009، ب “أن شعب المملكة المغربية هو شعب واحد بهوية واحدة غنية بروافدها ومكوناتها الثقافية والحضارية: العربية والأمازيغية والأندلسية والإفريقية، الإسلامية والمسيحية واليهودية، فهو بلد يعيش الوحدة في إطار التعدد الذي يغني الخصوصية”. ليترجم هذا التحول بشكل واضح في دستور 2011 الذي رسخ لكيان المملكة المغربية القائمة على أساس تنوع وتلاحم المقومات التعددية للهوية الوطنية الموحدة، وهو ما يشكل سابقة في كل الدساتير المتعاقبة واعترافا بالطبيعة المتعددة للروافد المكونة للهوية الوطنية.

وفي مجال الإعلام السمعي البصري، تحققت في الفترة ما أطلق عليه ب”العهد الجديد” والمرتبط بانتقال السلطة، وما أعقبها من مبادرات هادفة للنهوض بالتنوع اللغوي في وسائل الإعلام، عددا من المنجزات لصالح الأمازيغية في المجال الإعلامي، من ذلك إحداث قناة تلفزية أمازيغية سنة 2010، كما تنص دفاتر التحملات الخاصة بالقنوات التلفزية الوطنية على تخصيص برامج باللغة الأمازيغية بغرض تثمين وتأكيد الطابع المتعدد والمتنوع للمكونات الثقافية المغربية. سيسترشد القانون المتعلق بإعادة تنظيم الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، بالمقتضيات الحاضنة للتعدد اللغوي والتنوع الثقافي التي أفرزها دستور 2011، وذلك بالسهر على ضمان احترام التعددية اللغوية والثقافية للمجتمع المغربي في الإعلام، والعمل من أجل حماية وتنمية اللغتين الرسميتين للمملكة وضمان استعمال التعبيرات الشفوية المغربية وحماية الثقافة والحضارة المغربيتين في قطاع الاتصال السمعي البصري. مما انعكس ايجابا على وضعية الأمازيغية في المجال الإعلامي.

وبقدر ما أن المغرب قطع أشواطا هامة في القطع مع الممارسات الماسة ببعض الحقوق الفئوية، كما هو الشأن بالنسبة لحماية وتنمية الهوية الثقافية للطفل، وبالرغم من التوضيحات إلي قدمها المغرب بمناسبة تفاعله مع الآليات الأممية لحقوق الإنسان، وبشكل خاص المقصود بعبارة “الطابع الشخصي” الذي يجب أن يكتسيه الاسم الشخصي، الشيء الذي عملت على توضيحه دورية وزارة الداخلية سنة 2010، إلا أن الممارسة أبرزت وجود سلطة تقديرية واسعة لضباط الحالة المدنية، فيما يتعلق بالأسماء الشخصية للأطفال، وبشكل خاص التفسير الضيق للمقومات للحضارية للشعب المغربي الذي يحدد كمنطلق لمنع بعض الأسماء الشخصية الأمازيغية.

وفي مجال الحق في الوصول والاستفادة من الأراضي، تواجه أنظمة تدبير وملكية هذه الأخيرة، لارتباطها الجوهري بالثقافة والتقاليد والعوائد المحلية ومساهمتها الفاعلة في التنمية، تحديات حق مالكيها الأصليين في الوصول إليها والاستفادة منها، والتي يقع على الدول بموجب عدد من مقتضيات القانون الدولي واجبات الاحترام وإشراك الساكنة في صياغة السياسات التي تهم تدبير هذه الأراضي، في ظل توجهات نحو نزع ملكية الأراضي من مالكيها الأصليين، بالاستناد إلى قوانين سُنًّت في المرحلة الاستعمارية.

سابعا: تأثير المغرب وتأثره بمحيطه الإقليمي في شأن الحقوق الثقافية الأمازيغية. فمن المصادفات الغريبة أن المغرب والجزائر، الذين يتعارضان سياسيا، يلتقيان في طريقة تدبير عدد من القضايا الشائكة، ومنها التعاطي مع الحركة الأمازيغية؛ ويظهر ذلك من خلال تأثير الربيع القبائلي بالجزائر على انفتاح المغرب على الأمازيغية، وتأثير إحداث المفوضية السامية للأمازيغية بالجزائر سنة 1995 على الدفع بإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001، كما كان لفعل ترقية الأمازيغية كلغة رسمية في الدستور المغربي لسنة 2011، أثرا مباشرا على اعتماد الجزائر للغة الأمازيغية كلغة رسمية في دستور 2016.

ولنا أن نعتبر في نهاية المطاف، أن الإشكالية المطروحة وفرضيات الاشتغال المستثمرة للإجابة على أسئلة البحث كما جرى تحديدها في هذه الأطروحة، قد حاولت أن تقارب الموضوع، وقد اقتربت، إلى درجة معينة من تحديد الإطار العام المؤطر لتدبير الدولة لموضوع الحقوق الثقافية الأمازيغية، وخلاصات التدبير الرسمي لهذا الشأن، وذلك عبر تفحص تفاعل المغرب مع الآليات الأممية، والتأثير المحتمل للسياقين الإقليمي والدولي في الإجراءات المتخذة في هذا الإطار.

وبشكل عام يبين تفاعل المغرب مع الآليات الأممية لحقوق الإنسان، تطورا في الخطاب الحقوقي والالتزامات الطوعية، في مقابل بطئ سيرورة أوراش إدماج الحقوق الثقافية الأمازيغية على أرض الواقع أدى إلى بطئ إن لم نقل توقف عدد من الحلول والمخرجات التي تقدمها الدولة لحل قضية الحقوق الثقافية الأمازيغية.