مقال حول: توظيف العُرف القَبَلي ضمن مسار العدالة الانتقالية في اليمن
توظيف العُرف القَبَلي ضمن مسار العدالة الانتقالية في اليمن
The Utilization of Tribal Custom within the Framework of Transitional Justice in Yemen
القاضي/ محمد حمود الهتار
متخصص في العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان
Judge Mohammed Ham00d Al-Hetar
Specialist in Transitional Justice and Human Rights

ملخص:
تستعرض هذه الدراسة إمكانية توظيف العُرف القَبَلي كآلية مجتمعية مساندة لمسار العدالة الانتقالية في اليمن، في ظل تعقيدات الصراع وتراجع دور مؤسسات الدولة. وتنطلق من تحليل البنية الوظيفية للعُرف ودوره في إدارة النزاعات وتحقيق المصالحة، مقارنةً بالآليات القانونية الرسمية. وتخلص إلى أن التوظيف المتكامل للعرف ضمن إطار رسمي يمثل فرصة مهمة لتعزيز فعالية العدالة الانتقالية، شريطة أن يتم وفق رؤية تضمن الشفافية، وتحفظ حقوق الأفراد، وتعزز المشاركة المجتمعية الواسعة.
الكلمات المفتاحية: العدالة الانتقالية – العرف القبلي – اليمن
Abstract:
This study examines the possibility of employing tribal custom as a community-based mechanism in support of the transitional justice process in Yemen, in light of the complex nature of the conflict and the weakening of formal state institutions. It undertakes an analysis of the functional structure of tribal custom and its role in dispute resolution and reconciliation, in comparison with formal legal mechanisms. The study concludes that the integrated incorporation of tribal custom within an official legal framework offers a significant opportunity to strengthen the effectiveness of transitional justice, provided that such incorporation is guided by a vision that guarantees transparency, upholds individual rights, and ensures broad-based community participation.
Keywords: Transitional Justice – Tribal Custom – Yemen
مقدمة
في ظل ما شهده اليمن من صراعات وأزمات متعددة ذات طابع سياسي واجتماعي وعسكري، خلّفت جراحاً غائرة في النسيج المجتمعي، وولّدت حاجة ملحّة إلى مسار عدالة انتقالية يستوعب تعقيدات الواقع المحلي ويستجيب لمتطلباته، ورغم أن تجارب العدالة الانتقالية في العالم غالباً ما ترتكز على أدوات قانونية ومؤسساتية، إلا أن فعاليتها تتوقف على مدى مواءمتها للسياقات الثقافية والاجتماعية الخاصة بكل بلد.
في الحالة اليمنية، يُشكّل العرف القبلي أحد أبرز روافد التنظيم المجتمعي، لما يتمتع به من شرعية عرفية متجذّرة، وقدرة على إدارة النزاعات وبناء التسويات، حيث شكّل مرجعية أساسية لحل كثير من الخلافات، في ظل ضعف أو غياب الدولة، مما يجعل من الضروري إعادة النظر فيه، لا كمجرد إرث تقليدي، بل كرافعة محتملة في مسار العدالة الانتقالية، يمكن توظيفها بفعالية في تحقيق الإنصاف المجتمعي وتعزيز الاستقرار.
ويكتسب هذا الطرح أهمية مضاعفة في بلد تتشابك فيه حدود الدولة مع القبيلة، ويتداخل فيه الرسمي بالشعبي، فتغدو العدالة أكثر من مجرد إجراء قانوني؛ بل مسعى لترميم الثقة المجتمعية واستعادة الانتماء الوطني. وفي ظل الحاجة إلى عدالة تُنصف الضحايا وتُمهّد لمصالحة شاملة، تبدو ملاءمة هذه العدالة للسياق المحلي شرطاً أساسياً لنجاحها، ما يدفع إلى التفكير الجاد في سبل توظيف الأطر التقليدية، وفي مقدمتها العرف القبلي، ضمن منظومة قانونية وإنسانية متكاملة.
وفي هذا السياق، يُطرح تساؤل محوري: هل يمكن استثمار العرف القبلي كأداة محلية تُكمل الآليات الرسمية وتعزز من فرص نجاح العدالة الانتقالية؟ أم أن طبيعته التقليدية قد تضع قيوداً على إمكانية دمجه ضمن رؤية وطنية شاملة للإنصاف والمصالحة؟
سنسعى في هذا المقال إلى استكشاف الدور الذي يمكن أن يؤديه العرف القبلي في دعم مسار العدالة الانتقالية في اليمن، من خلال تحليل إمكانيات توظيفه ضمن مقاربة تنسجم مع الأطر القانونية الرسمية، كما يبحث في مدى قدرة هذا العرف، بما يتضمنه من مبادئ وآليات مجتمعية، على ترسيخ قيم العدالة وتعزيز المصالحة المجتمعية، بهدف تقديم رؤية متكاملة لتطوير هذا الإطار التقليدي ليكون جزءاً فاعلاً ضمن مشروع وطني للعدالة الانتقالية يراعي تنوع اليمن الثقافي والاجتماعي.
المحور الأول: العدالة الانتقالية: المفهوم والتحديات في السياق اليمني
تشير العدالة الانتقالية إلى مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي تعتمدها الدول لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سياقات ما بعد النزاع أو فترات التحول السياسي، وتهدف إلى تحقيق المصالحة الوطنية، وضمان عدم تكرار الانتهاكات، وتعزيز سيادة القانون، وتشمل أدواتها المحاكمات الجنائية، ولجان تقصي الحقائق، وبرامج جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية[1].
تعتبر العدالة الانتقالية إطاراً حيوياً لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتحقيق المصالحة الوطنية، وتعزيز سيادة القانون، إلا أن تطبيق هذا الإطار في اليمن يواجه تحديات معقدة تتداخل فيها الأبعاد السياسية، والأمنية، والمؤسسية، والاجتماعية.
من أبرز هذه التحديات استمرار النزاع المسلح وتعدد الجهات الفاعلة على الأرض، وهو ما يؤدي إلى حالة من انعدام الأمن ويعقّد فرص تنفيذ آليات العدالة، كما يعاني النظام القضائي من هشاشة بنيوية وتدخلات سياسية تفقده استقلاليته وفعاليته، في ظل تفشي الفساد داخل مؤسسات الدولة، ما يعيق جهود المساءلة والمصالحة[2].
على الصعيد الاجتماعي، عمّقت النزاعات المستمرة الانقسامات بين فئات المجتمع، وولّدت مناخًا من انعدام الثقة، الأمر الذي يعرقل أي مسار نحو مصالحة وطنية شاملة. وتُضاف إلى ذلك الطبيعة القبلية والمناطقية للمجتمع اليمني، والتي قد تدفع بعض الفئات إلى النظر للعدالة الانتقالية بوصفها تهديدًا لمصالحها أو لمكانة زعمائها، ما قد يؤدي إلى مقاومة شعبية أو سياسية لتنفيذها[3].
علاوة على ذلك، تفتقر المؤسسات المعنية إلى الكوادر المؤهلة والموارد المالية اللازمة لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية بشكل فعال، مما يضاعف من صعوبة تحقيق الإنصاف والمصالحة.
وفي ضوء هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى تبني مقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار الخصوصيات المحلية، وتسعى إلى توظيف الآليات التقليدية، مثل العرف القبلي، ضمن رؤية وطنية متكاملة لتعزيز فرص الإنصاف والمصالحة واستدامتهما.
المحور الثاني: ماهية العرف القبلي
يعد العرف القبلي أحد الركائز الجوهرية في البنية الاجتماعية اليمنية، حيث يمثل منظومة غير من القواعد والأعراف المكتوبة وغير المكتوبة التي تنظم شؤون الحياة اليومية داخل المجتمع، وتحدد الحقوق والواجبات، وتُعالج النزاعات بمختلف أشكالها، وقد نشأ هذا النظام وتطوّر عبر قرون من التفاعل الاجتماعي والثقافي، وظل راسخاً حتى يومنا.
ويُقرّ النظام القانوني في الجمهورية اليمنية بمكانة العرف، حيث يُعدّ مصدرًا من مصادر التشريع، شريطة أن يكون ثابتاً، ولا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية أو النظام العام والآداب العامة، مما يعكس نوعاً من التوازن بين القيم الدينية والأعراف الاجتماعية في التشريع اليمني[4].
ويلعب العرف القبلي في اليمن دوراً بارزاً في تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية، خاصة في ظل ضعف مؤسسات الدولة واستمرار النزاعات المسلحة حيث يُعتمد عليه كآلية فعّالة لحل الخلافات بين الأفراد والقبائل، من خلال لجوء المتخاصمين إلى شيوخ القبائل أو الحكماء للفصل في النزاعات بناءً على مبادئ تقليدية متوارثة وآليات لردع المعتدين والوقوف مع الضحايا، فضلاً عن تعويضهم تعويضاً عادلاً، سواء كان مالياً أو معنوياً، بهدف تحقيق العدالة والرضا بين الأطراف المعنية[5].
وتتجلى فعالية العرف القبلي في قدرته على حل النزاعات بسرعة وفعالية، مقارنةً بالقضاء الرسمي الذي قد يتسم بالبطء والتعقيد[6]، كما يسهم في تعزيز التوازان والاستقرار في المجتمع والسلم الأهلي من خلال تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع وضمان حقوقهم[7]، مما يقلل من احتمالية الصراعات. بالإضافة إلى ذلك، يشجع العرف القبلي على التسامح والعفو، مما يساعد في تجاوز الأحقاد وبناء علاقات قائمة على الثقة والاحترام المتبادل، فضلاً عن دوره في ضمان حقوق الأفراد والجماعات، ويضع آليات لحمايتها، مما يعزز من استقرار المجتمع، وإسهامه في تحقيق التوازن الاجتماعي وضمان التعايش السلمي بين مختلف مكوناته.
المحور الثالث: وسائل تسوية النزاعات القبلية:
لا تزال الأعراف القبلية في اليمن تُشكّل منظومة فعّالة لتسوية النزاعات، وتحظى بثقة مجتمعية عميقة، خاصة في ظل ضعف مؤسسات الدولة. وتتميّز هذه الوسائل بمرونتها، واعتمادها على الوساطة والقبول الاجتماعي، مما يمنحها قدرة خاصة على التفاعل مع السياقات المعقدة، ويجعل منها أداة واعدة لدعم مسارات العدالة الانتقالية. ويمكن تصنيف أبرز آليات التسوية القبلية كما يلي:
- الوساطة القبيلة
تُعد الوساطة القَبَلية من أبرز الآليات التقليدية لحل النزاعات في المجتمع اليمني، وقد أدّت دوراً محورياً في تسوية الخلافات وتحقيق الصلح عبر أجيال متعاقبة، وتقوم على احترام متبادل بين الأطراف، واعتماد شخصيات قبلية واجتماعية ودينية ذات مكانة مرموقة في المجتمع، تُعرف بالنزاهة والحكمة والحياد والقدرة على التأثير[8].
نبع أهمية الوساطة القبلية من قدرتها على إقناع الأطراف المتنازعة بالتوصل إلى صلح مؤقت أو تسوية دائمة، تقوم في الغالب على الاعتراف بالخطأ، وتقديم الاعتذار، وتعويض الضرر مادياً أو معنوياً، بهدف استعادة التوازن المجتمعي[9]، وغالباً ما تلجأ الدولة إلى هذه الوساطة في معالجة النزاعات التي قد تنشأ بينها وبين القبائل، أو في الخلافات التي قد تنشب بين شركات عامة والمجتمعات المحلية[10].
وفي إطار العدالة الانتقالية، يمكن توظيف هذه الوساطة كأداة فعّالة لتحقيق المصالحة، من خلال تشكيل لجان محلية للوساطة القبلية في مختلف المحافظات، تتكون من مشايخ وأعيان معروفين بمكانتهم ونزاهتهم، بما يعزز إشراك المجتمع في إنتاج حلول محلية مستدامة.
- التحكيم القبلي
يُعتبر التحكيم أحد أكثر آليات حل النزاعات فاعلية وشيوعاً في اليمن، ويعرف بانه اختيار الطرفين برضائهما شخصاً آخر أو أكثر للحكم بينهما، دون المحكمة المختصة، فيما يقوم بينهما من خلافات أو نزاعات[11]، وعادةً ما يتم اختيار شخصيات ذات ثقل قبلي وخبرة بالأحكام والأعراف القبلية، وتتمتع بالحياد بين الأطراف، وللتحكيم القَبَلي عدة أوجه، مثل التحكيم المطلق، التحكيم وللمحكم الوفاء، التحكيم وللمحكم المنهى، والتحكيم وللمحكم الذمة، ويُحرَّر اتفاق التحكيم كتابةً من قبل الأطراف المتنازعة، ويُعد بمثابة عقد مُلزم للطرفين[12]. كما يمكن في بعض الحالات أن يقوم أحد الأطراف بتحكيم الطرف الآخر، فيخوّله الفصل في النزاع وفقاً لما له وما عليه من حق وواجب.
وغالباُ ما يُرافق التحكيم تقديم ما يُعرف بـ”بنادق الصواب” من قبل الجاني أو عشيرته إلى قبيلة المجني عليه، وهي مجموعة من الأسلحة النارية تُسلَّم كإشارة رمزية على الاعتراف بالذنب وقبول التحكيم، وتعكس رغبة الجاني في حل النزاع وفقاً للأعراف القَبلية[13]، وتُعد هذه الخطوة جزءاً من الإجراءات الرمزية المهمة في العرف، وتُعبّر عن الجدية في الالتزام بأحكام التحكيم والسعي إلى التسوية السلمية للنزاع.
وقد أوجب قانون التحكيم اليمني على المحكّم أن يفصل في النزاع وفقًا لأحكام القانون اليمني أو لشروط العقد المبرم بين الطرفين، مع مراعاة الأعراف والعادات الاجتماعية، وكذلك الأعراف التجارية المتبعة في مثل هذا النوع من المعاملات[14]، مما يؤكد المكانة التي تحتلها الأعراف والعادات في البنية التشريعية اليمنية، واعتراف القانون بدورها في تسوية النزاعات.
ويشمل حكم التحكيم دفع تعويضات مالية أو فرض عقوبات اجتماعية، تهدف إلى ردع الجناة وإعادة استقرار العلاقات بين الأطراف المتنازعة، مثل النفي من منطقة الجريمة أو من مكان إقامة الضحايا لفترة زمنية معينة أو بشكل دائم.
ويتسم التحكيم القبلي عادةً بممارسات اجتماعية تقليدية، يقوم بها المحكم مع قبيلة الجناة وحلفائهم لإعادة الاعتبار للضحايا، مع السعي لتقليص التعويضات أو تخفيف العقوبات أو حتى العفو عن الجناة، تتضمن هذه الممارسات وصول المحكمين والوسطاء مع الجناة أو ممثليهم إلى ساحة الضحايا بالهجر وهي ذبيحة تقدم كرمز للاعتراف بالذنب والتماس التسامح من الضحايا أو ذويهم، وغالباً ما يتم إعادة الحيوان دون ذبحه، مما يعكس استعداد الجناة للاعتراف بخطأهم وتقديم التضحية كجزء من اعتذارهم وندمهم على ما اقترفوه.
ويعتبر العفو جزءاً جوهريا من العملية، حيث تتيح العادات القبلية إمكانية العفو عن الجناة فضلاً عن جزء من المبالغ المحكوم بها، بل قد يصل الأمر إلى الإعفاء عن ثلثي المبلغ، حيث يتم العفو عن ثلث المبلغ المحكوم به مقابل اعتراف الجناة وقبوله خصماً وحكماً في نفس الوقت[15]، بينما يُخصص العفو عن الثلث الآخر تكريماً للحاضرين عند الوصول، وفي بعض الحالات قد يتم تقليص مدة العقوبات أو العفو عنها بناءً على اعتراف الجناة واعتبارات أخرى تأخذها الوساطة القبيلة بعين الاعتبار.
ولضمان فعالية التحكيم القبلي في دعم مسار العدالة الانتقالية، من الضروري أن يتم تنظيمه تحت إشراف قانوني دقيق، يضمن توثيق الإجراءات والاتفاقات بشكل رسمي، ويؤمن توازناً حقيقياً بين إتاحة الفرصة للجناة للتوبة والإصلاح، وضمان حماية حقوق الضحايا وعدم المساس بكرامتهم أو مصالحهم.
كما يمكن للوسطاء المحليين، من مشايخ القبائل أو ممثلي الجهات الحكومية، أن يلعبوا دوراً محورياً في ضمان نزاهة هذه العملية، من خلال المراقبة والتوجيه، وتعزيز احترام المعايير الأخلاقية والقانونية في سياق تطبيق الأحكام العرفية.
علاوة على ذلك، يُمكن للتحكيم القبلي أن يُسهم بفاعلية في ترسيخ ثقافة التسامح، وتعزيز الثقة المتبادلة بين مكونات المجتمع، خاصة في المناطق التي تستند إلى الروابط القبلية كإطار رئيسي للتعايش. ومن خلال تبنّي هذه الآلية كجزء من مشروع العدالة الانتقالية، وبشرط تنظيمها وفق معايير واضحة تضمن حقوق جميع الأطراف وتمنع استغلالها لأغراض انتقامية، يمكن للتحكيم القبلي أن يكون أداة فعّالة لتحقيق المصالحة، وترميم النسيج المجتمعي، وتحقيق العدالة بمعناها المجتمعي المتجذر في ثقافة الناس.
- معبر النقاء
يُعدّ معبر النقاء إجراءً عرفياً رمزياً في المجتمع القبلي اليمني، يُستخدم لتسليم الجاني إلى أولياء الدم في قضايا القتل العمد، حيث يتقدّم حاملاً طلقة نارية في يده، مانحاً أولياء الدم كامل الحق في اتخاذ القرار: إما القصاص أو العفو، ويُعدّ هذا الإجراء من أسمى صور الاعتراف بالذنب وتحمل المسؤولية، لما له من دور في تهدئة النفوس ومنع تصاعد الثأر.
وتعد هذه الآلية أداة قوية في تعزيز العدالة الانتقالية في اليمن، خصوصاً في معالجة آثار النزاعات والصراعات الطويلة التي شهدها البلد، بالإضافة إلى التحديات التي يواجهها في بناء السلام والمصالحة بعد فترات من العنف والصراع، فهو يعزز الاعتراف بالذنب وطلب الصفح، مما يعزز الشفافية ويشعر الضحايا بالعدالة، كما يساهم في إعادة بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، وتجاوز الأحقاد القديمة، وفتح الطريق أمام المصالحة، ولكن يجب توخي الحذر في استخدامه.
إضافة إلى ذلك، فانه يساهم في تعزيز مبدأ التسامح والتعايش السلمي بين المجتمعات المتضررة من خلال تشجيع الحلول السلمية والعدالة العرفية، كما يساعد في تقليل الآثار النفسية الناتجة عن العنف والصراع، ويقدم بديلاً عادلاً اجتماعياً في الأماكن التي تفتقر فيها العدالة الرسمية، في النهاية، يُعتبر هذا النظام التقليدي أداة هامة في إعادة بناء العلاقات وتخفيف التوترات، مما يساهم في إرساء السلام الاجتماعي وبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة.
- اللجوء إلى العدالة
في حال تعذر الوصول إلى تسوية عبر الآليات القبلية، يُصار إلى تسليم الجناة إلى أجهزة الدولة القضائية لمحاكمتهم وفقاً للقوانين النافذة، ويمثل هذا المسار تعبيراً عن احترام هيبة الدولة وسيادة القانون، إلا أن تطبيقه يواجه تحديات كبيرة، أبرزها ضعف البنية المؤسسية لأجهزة القضاء، والافتقار إلى الاستقلالية والفعالية، بالإضافة إلى غياب الثقة المجتمعية في منظومة العدالة الرسمية.
وغالباً ما يُفضّل المتنازعون اللجوء إلى الحلول العرفية بدلاً من المحاكم، نظراً لما يرونه من سرعة واستجابة محلية وأحكام أقرب إلى قيمهم الاجتماعية، مقارنة بالإجراءات الرسمية التي قد تتسم بالبطء والتعقيد، وهذا يعكس الحاجة إلى إصلاح القضاء، وبناء منظومة عدالة تكاملية، تجمع بين الرسمي والتقليدي بما يعزز الثقة ويكرّس العدالة في صورتها الشاملة.
المحور الثالث: تقاطع العرف القبلي مع مبادئ العدالة الانتقالية
يتقاطع العرف القبلي في اليمن مع مبادئ العدالة الانتقالية في عدة جوانب، مما يجعله أداة محلية مهمة يمكن الاستفادة منها في تعزيز جهود المصالحة الوطنية. فيما يلي عرض لهذه الجوانب وفقاً للتسلسل الزمني المتعارف عليه في آليات العدالة الانتقالية:[16]
- كشف الحقيقة
تُعتبر عملية كشف الحقيقة الخطوة الأولى في مسار العدالة الانتقالية، حيث تهدف إلى توثيق الانتهاكات وتحديد المسؤولين عنها، في اليمن يمكن للعُرف القبلي أن يساهم في هذه العملية من خلال تنظيم جلسات استماع تقليدية تُعرف بـ “المجالس القبلية”، حيث يُدعى الشهود والأطراف المعنية للإدلاء بشهاداتهم، مما يساعد في بناء سردية مشتركة حول الأحداث الماضية.
- الاعتراف بالضحايا
بعد توثيق الانتهاكات، تأتي مرحلة الاعتراف بالضحايا، والتي تهدف إلى إعادة الاعتبار لهم واستعادة مكانتهم في المجتمع، ويُسهم العُرف القبلي في هذا الجانب من خلال تقديم اعتذارات علنية من قبل الجناة أو ممثليهم، وتنظيم مراسم تقليدية كالوصلة والهجر[17] أو العقير[18] التي تُظهر التعاطف والتضامن مع الضحايا وأسرهم، وهو ما يسهم في تعزيز المصالحة وتخفيف مشاعر الانتقام.
تُعتبر هذه المناسبات الاجتماعية جزءًا مهماً من عملية العدالة الانتقالية، حيث يُعد الاعتراف والاعتذار أمام المجتمع خطوة أساسية في تحويل النزاع إلى عملية تصالحية، من خلالها يتم العمل على إعادة بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة وتقديم فرصة جديدة للتعايش السلمي.
- جبر الضرر والتعويض
يُعد جبر الضرر أحد الركائز الأساسية للعدالة الانتقالية، حيث يسعى إلى تعويض الضحايا عن الانتهاكات التي تعرضوا لها سواء كان التعويض ماديا أو معنويا فرديا أو جماعياً، ويوفر العُرف القبلي في السياق اليمني آليات تقليدية للتعويض تشمل التعويضات المادية مثل “الديات” و”الأروش”، وأشكال أخرى من التعويضات المادية التي تهدف إلى رد الحقوق المفقودة، كما تشمل أشكال التعويض المعنوي التي يمكن أن تتمثل في “الوصلة” و”الهجر”، وهي ممارسات تقليدية تساهم في تقديم الاعتراف بالجريمة وتهيئة الظروف لتقوية العلاقات الاجتماعية، حيث يتم تقديمهما كوسيلة للتعاطف والتضامن مع الضحايا، ورد اعتبار الأفراد المتضررين من الانتهاكات في المجتمع.
إضافة إلى ذلك، يُعتبر العفو المطلق من قبل الضحايا أو ذويهم عن الجناة في القضايا ذات البعد الاجتماعي خطوة رمزية ذات مغزى كبير، من خلال ذلك يمكن لقبيلة الجناة أو القبائل الأخرى الوسيطة أن ترفع “البيضاء” [19]، مما يسهم في تعزيز العدالة الاجتماعية.
هذه الرمزية يمكن أن تُستغل بشكل إيجابي من خلال إقامة نصب تذكارية أو إحياء مناسبات خاصة لتسليط الضوء على الأفعال الإيجابية، وبالتالي تساهم هذه الرمزية في نشر ثقافة الاعتراف بالخطأ، والمصالحة، والاعتذار الجماعي، مما يعزز التعايش السلمي ويعيد بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة.
- المصالحة المجتمعية
تركز العدالة الانتقالية على تحقيق المصالحة بين الأطراف المتنازعة، ويلعب العُرف القبلي دوراً مهمًا في هذا الجانب من خلال تنظيم جلسات الصلح التي تجمع بين الأطراف المختلفة، وتشجع على التسامح والعفو، مما يساعد في تجاوز الأحقاد وبناء علاقات قائمة على الثقة والاحترام المتبادل.
- منع تكرار الانتهاكات
تسعى العدالة الانتقالية إلى ضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل، وعلى هذا المنوال يُسهم العُرف القبلي من خلال تطبيق العقوبات التقليدية على المعتدين، وفرض العقوبات الرادعة في حال تكرارها، وتعزيز القيم المجتمعية التي تحث على احترام الحقوق والواجبات، مما يساعد في ردع الانتهاكات المستقبلية.
- تعزيز ثقافة التعايش السلمي
تعتمد المجتمعات القبلية على التقاليد والقيم الاجتماعية في تشكيل نظرتها إلى النزاع والمصالحة، وبالتالي فان العرف القبلي يمكن أن يعزز ثقافة التعايش السلمي من خلال عدة مبادرات تتبناها لجان الوساطة القبلية ومؤسسات المجتمع المحلي، مثل تنظيم ورش عمل وندوات توعوية لرفع الوعي بأهمية الاعتراف بالخطأ والاعتذار كخطوات نحو المصالح، كما يمكن للقبائل تبادل الخبرات حول كيفية حل النزاعات وممارسات التسامح، مما يعزز الوعي القبلي ويدعم ثقافة الاعتراف بالخطأ والتسامح، ويؤدي إلى إيجاد حلول إبداعية تتناسب مع خصوصية كل مجتمع قبلي، مما يساهم في تقليل العنف والصراعات المستقبلية، وتساعد في بناء مجتمعات أكثر سلمية وتعاونًا.
المحور الرابع: الضغط الاجتماعي للعدالة العرفية
تلعب القيم الاجتماعية في المجتمع اليمني دوراً أساسياً في تعزيز العدالة الانتقالية، إذ تسهم بشكل كبير في الضغط على الجناة للاعتراف بأخطائهم وحل النزاعات، خصوصاً في ظل ضعف المؤسسات الرسمية، وتعتبر هذه القيم تعتبر من الأدوات الفعالة لإعادة بناء الثقة والتعايش السلمي بين الأطراف المتنازعة، ومن أبرز هذه الآليات الاجتماعية هي:
- الفزعة:
في المجتمع القبلي اليمني، يُعتبر مفهوم “الفزعة” أحد الركائز الأساسية التي يعتمد عليها المجتمع القبلي اليمني في مواجهة الظلم ودعم المظلومين، إذ يعرف بانه عملية تجمع القوى القبلية لتقديم الدعم للفرد أو المجموعة المظلومة ضد الجاني، وهي تعكس التضامن الاجتماعي في أوقات الأزمات[20].
يمكن الاستفادة من هذه الآلية في تعزيز العدالة الانتقالية من خلال إشراك القبائل في الضغط على الجناة للاعتراف بأفعالهم وطلب الاعتذار، وكذلك دفعهم لتقديم تعويضات للضحايا بشكل جماعي، او للمساهمة في جمع التعويضات، مما يسهم في تحقيق العدالة وإنصاف المتضررين، كما يمكن للقبيلة استخدام قوتها الاجتماعية ونفوذها لتفعيل آليات المصالحة، خاصة عندما تكون المؤسسات الرسمية ضعيفة أو غائبة.
- الدفـــارة:
تعد نوع من الضغط الاجتماعي الذي يمارس للوصول إلى نتيجة إيجابية لصالح المظلومين، حيث تعرف بأنها عملية الوصول إلى جهة أو مؤسسة أو قبيلة معينة بُغية تحقيق هدف محدد، وغالباً ما تُستخدم في حل النزاعات أو للحصول على حق من حقوق الضحايا.
يمكن توظيف ذلك في سياق العدالة الانتقالية من خلال تعزيز التنسيق بين الأطراف المختلفة، مثل القبائل، والحكومة، والمنظمات الحقوقية، بهدف التوصل إلى حلول عادلة للمظالم التي وقعت خلال النزاع أو بعده، من خلال هذه العملية يمكن تسريع الإجراءات المتعلقة بالعدالة والمصالحة، وضمان حصول الضحايا على حقوقهم بشكل أكثر فعالية.
- النكف:
ويعرف النكف بانه توجيه نداء لعدد من القوى القبلية التي قد تشمل فروعاً متعددة من قبيلة واحدة أو حتى قبائل متحالفة ضد جهة أخرى ارتكبت خطأ جسيماً في العرف القبلي، مثل القتل أو الاعتداء على الأعراض أو غيرها من الكبائر[21].
في سياق العدالة الانتقالية، يمكن للنكف أن يكون آلية للمطالبة بالعدالة وتقديم الردع ضد الجناة الذين ارتكبوا جرائم خطيرة، حيث يعيد التأكيد على القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تحمي المجتمع من الانفلات الأمني أو تجاوزات الأفراد، كما يمكن أن يتضمن “النكف” مطالبات بتعويضات أو اعتذار جماعي من الجناة.
تُعد هذه المفاهيم أدوات فعّالة في تعزيز العدالة الانتقالية في اليمن، إذ تساهم في ضغط الجناة للقبول بالتسوية، والاعتراف بأخطائهم، والتعاون مع الجهود المبذولة لاستعادة الحقوق المنتهكة. كما تعزز من إعادة بناء الثقة بين أفراد المجتمع بعد فترات طويلة من الصراع، مما يساهم في تحقيق المصالحة الاجتماعية وتحقيق العدالة المستدامة.
المحور الخامس: التحديات التي تعيق التسويات القبلية في إطار العدالة الانتقالية:
على الرغم من الدور الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه الوسائل القبلية في تعزيز العدالة الانتقالية في اليمن إلا أن تطبيقها يواجه جملة من التحديات، بعضها مرتبط بالتركيبة الاجتماعية والثقافية، والبعض الآخر بالظروف السياسية والاقتصادية وتداخلها مع النظام القضائي الرسمي. فيما يلي أبرز هذه التحديات:
- اختلاف الفهم الثقافي لمفهوم العدالة والمصالحة
قد يختلف الفهم الثقافي لعملية العدالة والمصالحة بين المناطق والقبائل في اليمن، حيث يُمكن أن يُنظر إلى العفو والتسامح في بعض المناطق بشكل إيجابي، بينما قد يواجه تقبل فكرة التنازل عن الحقوق مقابل العفو مقاومة في مناطق أخرى، هذا التباين قد يعترض تطبيق آليات التسوية القبلية، ما يستدعي جهوداً مجتمعية وثقافية لتعزيز الوعي العام بمفاهيم العدالة الانتقالية وفوائدها طويلة الأمد، خصوصاً في تحقيق السلم الأهلي والحد من النزاعات.
- احتمالية تحول التسامح إلى أداة للانتقام
في بعض الأحيان، قد لا تسهم الوسائل القبلية في تخفيف التوترات بين الأطراف المتنازعة، بل قد تؤدي إلى تصعيد العنف، إذا لم يكن هناك قبول حقيقي من الجاني أو من أولياء الدم للفكرة، فقد يستمر العنف، خاصة إذا شعر أحد الأطراف بعدم حصوله على العدالة الكافية، أو إذا تم استغلال التسامح لتجاوز حقوق الضحايا، لذلك من الضروري وجود آليات رقابة وضمانات قانونية تضمن ألا تُستخدم التسوية كوسيلة لتجاوز العدالة أو الإضرار بحقوق الضحايا.
- محدودية التأثير في النزاعات الكبيرة والمعقدة
في حالات النزاع المسلح الكبيرة، مثل تلك التي شهدتها اليمن في السنوات الأخيرة، قد تكون الوسائل القبلية غير كافية لحل النزاعات بشكل فعال، فالنزاعات السياسية أو المسلحة التي تشمل أطرافًا متعددة، بما في ذلك الجماعات المسلحة والدول، تتطلب حلولًا معقدة وآليات أكثر رسمية من تلك التي توفرها الوساطات القبلية.
في هذه الحالات، تصبح الحاجة ماسة إلى توظيف الوسائل القَبَلية ضمن أطر رسمية وأممية، بما يُسهم في تقديم حلول أكثر شمولاً وفاعلية.
- التأثيرات السلبية للفساد والعوامل السياسية:
من أكبر التحديات التي قد تواجه العدالة الانتقالية في اليمن هو الفساد والتدخلات السياسية في عمليات التسوية القَبَلية، إذ قد يتم استغلال الوساطات القَبَلية لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية خاصة من قبل بعض الأطراف المتنفذة، مما قد يُقوّض مصداقية التسويات ويجعلها عرضة للتحايل أو التلاعب على حساب حقوق الضحايا أو الأطراف المتضررة.
لذلك يجب العمل على إصلاح النظام السياسي وتعزيز الشفافية في الإجراءات القَبَلية، وذلك من خلال:
- ضمان إشراف أطراف محايدة أو مؤسسات دولية على عمليات الوساطة القَبَلية لمنع التدخلات السياسية أو الاقتصادية التي قد تضر بمصداقية العدالة.
- تطبيق آليات قانونية واضحة تضمن محاسبة الأطراف التي تستغل الوسائل القَبَلية لمصالحها الشخصية، وتوفير آليات للتقاضي في حال حدوث تلاعب.
- نشر الوعي بين جميع الأطراف، سواء كانت قبائلية أو سياسية، حول أهمية الشفافية والمساءلة في عمليات الوساطة والعدالة الانتقالية.
- تقوية التنسيق بين الجهات القَبَلية والجهات الحكومية والدولية لتحقيق توازن في العملية وضمان أن تكون التسويات عادلة ومتوازنة.
- غياب آليات قانونية لضمان التنفيذ
يعتبر من أبرز التحديات التي قد تواجه فعالية الوسائل القَبَلية في تسوية النزاعات في اليمن، غياب آليات تنفيذية قانونية واضحة، تصبح معها التسويات العرفية عرضة للتجاهل أو الانتهاك، مما يعيد الفوضى والتوترات ويؤدي إلى استمرار العنف.
من أجل ضمان تنفيذ فعال لقرارات الوساطة القَبَلية، يجب العمل على إنشاء آليات قانونية موازية تدعم هذه العمليات، وتضمن التنفيذ العادل، يمكن تحقيق ذلك عبر:
- ضمان تكامل الوسائل القَبَلية مع الإجراءات القانونية الرسمية، بحيث يتم توثيق التسويات القَبَلية وتصبح قابلة للتنفيذ، على سبيل المثال يمكن تحويل الاتفاقات التي يتم التوصل إليها عبر الوساطة القَبَلية إلى قرارات قانونية يُصادق عليها القضاء.
- إنشاء لجان مختصة في إطار هيئة العدالة الانتقالية تراقب تنفيذ قرارات الوساطة القَبَلية، مع منحها صلاحيات قانونية لضمان الالتزام بتلك القرارات، تشمل قضاة مختصين أو ممثلين عن منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية.
- يجب تحديد المسؤوليات القانونية للأطراف المتورطة في إفشال التسوية القَبَلية، سواء كان الجناة أو الضحايا أو ذويهم، بمعنى أن أي طرف يخل بالتزاماته يجب أن يواجه تبعات قانونية، بما يضمن الحفاظ على نزاهة وفعالية التسوية.
- تعزيز التنسيق بين الأطراف القَبَلية والسلطات الحكومية لضمان وجود إطار قانوني مشترك يعزز قدرة النظام القضائي على فرض تطبيق التسويات القَبَلية، والحد من أي تلاعب أو تحايل قد يعرض الحقوق والعدالة للخطر.
- نشر الوعي بين الأطراف المجتمعية حول أهمية الالتزام بالقرارات القَبَلية الموثقة قانونياً، وما يترتب على عدم التنفيذ من عواقب قانونية، بما يعزز ثقافة احترام القانون.
- صعوبة إعادة بناء العلاقات بين القبائل
إعادة بناء العلاقات بين القبائل في اليمن تعد من أكبر التحديات في إطار العدالة الانتقالية، خاصة بعد سنوات طويلة من العنف والصراعات التي أدت إلى تدمير الروابط الاجتماعية والقبلية، ومع هذه الفترات الصعبة؛ تصبح استعادة الثقة بين الأطراف المتنازعة أمراً معقداً، حيث يجد أولياء الدم والجناة صعوبة في إعادة بناء الثقة بعد سنوات من العداوات والدمار.
من أجل استعادة هذه الثقة، يجب تنفيذ برامج موجهة تعزز الحوار الاجتماعي وتنظم أنشطة مشتركة بين القبائل المختلفة، تشمل مشروعات تنموية تشارك فيها القبائل، مما يعزز التعاون بينها ويعمل على تقوية الروابط الاجتماعية والاقتصادية بين أفرادها.
- تقدير التعويضات في ظل تعدد لجان الوساطة في المحافظات
يعد تقدير التعويضات من أبرز التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية في اليمن، خصوصًا في سياق تعدد لجان الوساطة القبلية في مختلف المحافظات. هذه اللجان، رغم دورها المهم في التوصل إلى تسويات قبلية، قد تتفاوت في المعايير التي تعتمدها لتقدير التعويضات المترتبة على الأضرار الناتجة عن الانتهاكات، هذا التفاوت يمكن أن يخلق شعوراً بعدم العدالة بين الأطراف المتنازعة وقد يؤثر سلباً على مصداقية عمليات العدالة الانتقالية.
وفي الختام، يُعد تعزيز مسار العدالة الانتقالية في اليمن ضرورة ملحّة لبناء السلام الاجتماعي واستعادة الثقة بين مختلف الأطراف، في ظل ما خلّفته الصراعات من جراح وانقسامات، ويُشكّل توظيف الوسائل القَبَلية في إطار الآليات الرسمية فرصة مهمة لتعزيز فاعلية هذا المسار، شريطة أن يتم ذلك ضمن رؤية تكفل الشفافية، وتُراعي حقوق الأفراد، وتضمن مشاركة مجتمعية واسعة، وقد خلصت من خلال هذه المقالة الى عدد من التوصيات أبرزها:
- تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية العدالة الانتقالية، وتوضيح الفوائد الطويلة الأمد للمصالحة، مثل تحقيق السلام الاجتماعي والحد من التوترات بين مختلف الأطراف.
- وضع آليات رقابة وضمانات قانونية تضمن أن التسوية القَبَلية لا تُستخدم كوسيلة لتجاوز العدالة أو الإضرار بحقوق الضحايا.
- توظيف الوسائل القَبَلية بالتكامل مع الجهود الرسمية للسلام، بما في ذلك دعم المجتمع الدولي، بهدف تعزيز فعالية التسويات وتحقيق حل شامل ومستدام للنزاعات
- إصلاح النظام السياسي وتعزيز الشفافية في الإجراءات القَبَلية، مع ضمان إشراف أطراف محايدة على الوساطات القَبَلية وتطبيق آليات قانونية واضحة لمحاسبة الأطراف المتورطة في التلاعب أو استغلال الوسائل القَبَلية لأغراض شخصية.
- إنشاء آليات قانونية موازية تدعم عمليات الوساطة القَبَلية وتضمن تنفيذها العادل، مثل توثيق التسويات القَبَلية وتحويلها إلى قرارات قانونية قابلة للتنفيذ من خلال النظام القضائي.
- تنفيذ برامج لتعزيز الحوار الاجتماعي وتنظيم أنشطة مشتركة بين القبائل المختلفة لاسيما في المناطق التي شهدت صراعات، مثل المشروعات التنموية، لتقوية الروابط الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز التعاون بين المجتمعات.
- توحيد معايير تقدير التعويضات في لجان الوساطة القبلية لضمان العدالة والمساواة في تقدير الحقوق المالية وتعويض الأضرار الناتجة عن النزاعات والانتهاكات.
والله ولي الهداية والتوفيق
[1] [1] تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع، (نيويورك، منشورات الأمم المتحدة، وثيقة رقم 616/2004، 23 آب/ أغسطس 2004)، ص6
[2] محمد الشويطر، دور القضاء في تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة في اليمن، مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية، 20 نوفمبر 2024، شوهد في 12 فبراير 2025، على الرابط https://sanaacenter.org/files/The_Role_of_the_Judiciary_in_Achieving_Transitional_Justice_and_Reconciliation_in_Yemen_ar.pdf.
[3] مقالنا المنشور في موقع مغرب القانون تحت عنوان العدالة الانتقالية في اليمن: مسار المصالحة والتوازن المجتمعي، المنشور في 20يناير 2025، شوهد في 21 فبراير 2025، على الرابط https://www.marocdroit.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9%D9%8A_a11659.html
[4] المادة (1) من القرار الجمهوري بالقانون رقم(14) لسنة 2002م بشأن القانون المدني
[5] للمزيد انظر: د. رشاد محمد العليمي، القضاء القبلي في المجتمع اليمني، در الوادي للنشر والتوزيع.
[6] د. رشاد محمد العليمي، القضاء القبلي في المجتمع اليمني، در الوادي للنشر والتوزيع ، ص 89
[7] د/ فضل أبو غانم،/ البنية القبلية في اليمن بين الاستقرار والتغيير، دار الحكمة اليمانية، الطبعة الثانية، ص 260.
[8] د/ فضل أبو غانم، البنية القبلية في اليمن بين الاستقرار والتغيير، دار الحكمة اليمانية، الطبعة الثانية، ص 177
[9] للمزيد انظر: فضل أبو غانم، البنية القبلية في اليمن بين الاستقرار والتغيير، دار الحكمة اليمانية، الطبعة الثانية، ص 26 وما بعدها
[10] مؤسسة تنمية القيادات الشابة. “الأدوات التقليدية اليمنية لحل النزاعات ودور النساء والرجال.” 2018. YLDF, www.yldf.org/upfiles/publications/YARD2021-12-22-07-33-20-2290.pdf
[11] المادة (1) من قانون التحكيم
[12] مدونة يمن دوت كوم، العرف القبلي “مفاهيم ومصطلحات” – يمن كوم
[13] د. رشاد محمد العليمي، القضاء القبلي في المجتمع اليمني، در الوادي للنشر والتوزيع ص 78
[14] المادة (45) من القرار الجمهوري بالقانون رقم (22) لسنة 1992م بشـأن التحكيـم
[15] د. رشاد محمد العليمي، القضاء القبلي في المجتمع اليمني، در الوادي للنشر والتوزيع، ص 101
[16] “ما هي العدالة الانتقالية؟” المركز الدولي للعدالة الانتقالية، https://www.ictj.org/ar/what-transitional-justice. تم الوصول إليه في 16 نيسان 2025.
[17] عبارة عن ذبيحة (قربان) تقدم للمجني عليه كرد اعتبار لخطأ ارتكب فيه حقه سواء كان المجني عليه فرداً او جماعة او قبيلة.
[18] عبارة عن ذبيحة (قربان) تعبر عن الظلم القاهر وطلب الإنصاف أو طلب اللجوء والحماية.
[19] راية تنصب في مكان عالٍ أو في مداخل المدن والقرى، إعلاناً عن فعلٍ يستحق الثناء
[20] مؤسسة تنمية القيادات الشابة. “الأدوات التقليدية اليمنية لحل النزاعات ودور النساء والرجال.” 2018. YLDF, www.yldf.org/upfiles/publications/YARD2021-12-22-07-33-20-2290.pdf
[21] مؤسسة تنمية القيادات الشابة. “الأدوات التقليدية اليمنية لحل النزاعات ودور النساء والرجال.” 2018 YLDF, ، ص62 على الرابط: www.yldf.org/upfiles/publications/YARD2021-12-22-07-33-20-2290.pdf