مقال حول: توسيع المشاورات الوطنية في سوريا : مدخل للمصالحة الوطنية
توسيع المشاورات الوطنية في سوريا : مدخل للمصالحة الوطنية
د. المصطفى بوجعبوط
موضوع العدالة الانتقالية أثار النقاش منذ زمن طويل في سوريا من لدن فعاليات المجتمع المدني سواء على مستوى الداخلي أو الخارجي، وبلغ ذروته بعد سقوط نظام الأسد…هذا النقاش يعتبر العدالة الانتقالية مدخل لاستقرار سوريا ومعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي مورست في سوريا والتي ساهمت في التهجير القسري وجرائم الحرب والقتل والتعذيب والابادة والهجمات بالأسلحة الكيماوية…وغيرها.
وبالرغم من أهمية نهج العدالة الانتقالية من خلال آلياتها ومبادئها الفضلى، فإن أجرأتها الفعلية تشكل أحيانا مخاطر جديدة في اللااستقرار على مدى البعيد وقد تعيد السلطوية من الجديد ما لم يتم الانتباه إلى بعض الخصوصيات المحلية والإقليمية في معالجة إرث الماضي وما لم يوكبها الدعم السياسي والمدني.
لاشك أن العدالة الانتقالية في بعدها الدولي تنبني على قيم فضلى حماسية للضحايا وذوي الحقوق ما لم يتم التفكير في أفق أجرأتها وتتبع تفعيلها على مستوى الواقع بعيدا عن الثأر في المعالجة، وبالتالي فللعدالة خصوصيات محلية مع العلم أنه لم تنجح أي تجربة في أجرأة كل آليات العدالة الانتقالية على مستوى الواقع إلا أن يتم الكشف عن عيوب وتحديات مرتبطة بعدم الدعم السياسي خلال توالي الحكومات وعلى امتناع أجهزة الدولة في مواصلة كشف الحقيقة وغيرها.
فإن سوريا مقبلة على تطبيق العدالة الانتقالية وعليها أن تستحضر بروفيلات مهندسيها في معالجة الملف برمته لا بتجزيئه جغرافيا أو إثنيا أو طائفيا أو ايديولوجيا. فالمجتمع المدني السوري والضحايا يجب أن يكونوا في قلب العدالة الانتقالية من خلال توسيع النقاش والحوار الاجتماعي على مداخل العدالة الانتقالية.
في ضوء هذا، أريد التركيز على بعض النقط وهي على النحو التالي:
- المشاورات الوطنية: حق الجميع في العدالة الانتقالية.
تعد المشاورات من بين أهم المراحل الأساسية لبناء مقومات العدالة الانتقالية في سوريا حيث تساهم الإدارة الانتقالية في فتح حوار وطني فعلي مع مختلف الفعاليات الدولية والوطنية لأجل بلوغ الغاية الفضلى لاحتياجات العدالة الانتقالية المحلية.
فالمشاورات في سوريا يجب أن تستوعب الحقوق الأساسية للضحايا وذي الحقوق الذين عانوا ويلات الماضي من الانتهاكات، وتستوعب حجم الضرر وتحديد مفهوم “الضحية” ضمن برامج العدالة الانتقالية ويكون فيها “الضحية” الحلقة الأساسية في برامج دون تمييز بين الجنس والعرق والطائفة….وغيرها، ايمانا أن حقوق الإنسان لها الطابع الشمولي والكوني.
وبالتالي، فالمشاورات يجب أن تستحضر فعاليات المجتمع الدولي وخصوصا الآليات الدولية التي أعدت فيما سبق تقاريرها وتحقيقاتها حول الانتهاكات وتقارير حول المفقودين في سوريا. إلى جانب ذلك، تقارير فعاليات المجتمع المدني المحلي من جمعيات وأحزاب ونقابات ومراكز بحثية وأصحاب المصلحة وغيرها من المؤسسات ذات صلة. كما يجب التركيز خلال المشاورات على خبراء مستقلين مشهود لهم بالشفافية والنزاهة والكفاءة.
- المشاورات الوطنية: ما يجب أن يكون.
فالنقاش العمومي، يعتبر ظاهر صحية للمجتمع السوري المعروف بقيمه وثقافته في البناء وتاريخه الكبير بمفكره ورواده ومناضليه…الذين سيساهمون في بناء مقومات الدولة السورية من مداخل متعددة لتحقيق الوحدة الوطنية بعيدة عن الحسابات الضيقة.
فالمشاورات الوطنية السورية يجب أن تشخص وتستحضر قيم السلم والسلام الإقليمي من خلال ما يعرفه من صراعات واللااستقرار.. ويستحضر الإطار القانوني والمؤسساتي الهش في سوريا وما يعرفه من ضعف خلال الفترة الانتقالية…ليكون التفكير في البناء لا الهدم. فالمشاورات ينبغي أن تركز وتستحضر بعض النقط التالية:
- المعايير الدولية لحقوق الإنسان أثناء المشاورات؛
- الإطار القانوني والمؤسساتي لسوريا؛
- إنشاء لجنة مؤقتة لتشخيص حجم الانتهاكات؛
- برامج التعويضات وجبر باقي الأضرار؛
- قطاع العدالة في سوريا؛
- التحقيقات في الانتهاكات (البداية والنهاية)؛
- إنشاء لجنة الحقيقة بعد انتهاء الأولى وفق مقاربة العدالة الانتقالية؛
- التهجير القسري للسورين؛
- النفي الاضطراري للسوريين؛
- نزع الملكية في سوريا؛
- رفاة الضحايا…إلخ.
- المشاورات الوطنية: فهم احتياجات الضحايا أولا.
إن أفضل التجارب الناجحة نسبيا تعود إلى توسيعها حجم المشاورات الوطنية بين مختلف مناطقها الجغرافية والاطلاع على الجسامة الميدانية للانتهاكات التي مورست في الماضي وتأكيد ذلك من خلال التحقيق والبحث والتحري التي ستقوم بها اللجان المؤقتة.
لأن الضحايا في حاجة إلى استرجاع الثقة أولا وفي حاجة إلى معرفة ما تقوم به سوريا لأجل مواطنيها لإنجاح وبناء مقومات المصالحة الجغرافية ومصالحة الدولة مع المجتمع برمته، وبذلك فإن الضحايا في حاجة ماسة إلى من يستمع إلى معاناتهم وأن تندرج تجاربهم ضمن برامج العدالة الانتقالية للبحث عن احتياجاتهم وأولويتهم في معرفة الحقيقة بعد الاستماع الفردي أو الجماعي لهم وجبر أضرارهم بعد استرداد حقوقهم وممتلكاتهم.
هذا الاتجاه، سيساهم بإحساس الضحايا بانخراطهم في منظومة العدالة الانتقالية ويدافعوا على مبادئها وآليتها بكل حرية باعتباره في قلب التغيير والإصلاح القانوني والمؤسساتي لمستقبل سوريا دون إغفال الإطار القانوني المستعجل في حماية الضحايا والشهود أثناء العملية.
- المشاورات الوطنية: ثقافة المأسسة… الوطن أولا.
فثقافة المشاورات لا يعرفها إلا من يريد بناء الوطن أي بناء مقومات العملية الانتقالية بشكل سلمي وعلى قاعدة الانصاف والاعتراف بالضحية كفاعل في نهج العدالة الانتقالية…وبتوسيع هذه الثقافة من خلال النقاشات الواسعة عن آليات العدالة الانتقالية حتى يكون للمجتمع السوري سواء الحاضر أو في المستقبل الالمام الكامل لما وقع خلال فترة زمنية من تاريخ سوريا…ودون إغفال حلقة من حلقات المعاناة في سوريا أو حق من حقوق الضحايا سواء ضحايا داخل سوريا أو خارجها.
والنيوثقافي في مقومات العدالة الانتقالية تعطي الطابع الإيجابي للتجربة وتهدف أن تكون استثنائية وتعطي أبعاد لم تكن متوقعة في نهج معالجة إرث الانتهاكات مع العلم أن استنساخ التجارب دائما تترك أعطاب غير مرضية للضحايا وذويهم وبعيدة عن بينية الثقافة المحلية…ولها أثر سلبي في المعالجة النهائية للملف. فالبحث عن المستقبل عبر المصالحة المجتمعية تعد أحد الأسس الكبرى للتحول والانتقال إلى دولة القانون والحق .
فالمشاورات الوطنية تهدف إلى الوقوف على المجتمعات المحلية والاطلاع على ثقافات قد تكون بعيدة عن التأثير ولكنها متأثرة من نهج السياسات المتبعة (انتهاك ثقافة معينة..) من خلال التطويق والحرمان من التنقل والتنمية وغيرها …فالمشاورات يمكن أن تتداول أشياء لم تكن مبرمجة في جدول القائمين أو عدم دراية بها، كما هو الشأن في تجربة تيمور الشرقية الذي قاموا بالمشاورات قبل إنشاء اللجنة، حيث وقفت على تفشي ظاهرة المجاعة القسرية ولم تكن مطروحة في أجندة المشاورات…وبالتالي فالمشاورات تهدف إلى قيم فضلى يمكن أن تتجاوز البرنامج المطروح.
- المشاورات الوطنية: اختيار الأعضاء
كم من تجربة فشلة في عملها منذ البداية بفعل عدم توافق الأيديولوجيات والتطاحن السياسي الذي يساهم في الهدم لا البناء بفعل حسابات شخصية إلى جانب عدم كفاءة بعض الأعضاء يؤثر على عمل الهيأة مما يجعلها عرضة إلى الانتقادات داخلية وخارجية دون الوصول إلى أهداف العدالة الانتقالية ودون استحضار فكرة الوطن.
وعليه، فالمشاورات في اختيار الأعضاء تعد ضمن المحطات الصعبة في تأسيس لجنة الحقيقة وفق مقاربة العدالة الانتقالية، …غير أن الرجوع إلى تجارب فضلى نجد أن أعضاء لجان تم إنشائها بناء على تعيينات وأخرى عن طريق التصويت بعد دراسة ملفاتهم وأخرى تدخلت فيها إدارة الأمم المتحدة (سيراليون، سلفادور، غواتيمالا، تيمور شرقية…).
فالمشاورات في أفق تحديد أو اختيار الأعضاء يحتاج إلى توسيع المشاورات بين مختلف الأطياف ومكونات المجتمع المدني لأجل تحديد شروط الاختيار الاعضاء مع استحضار التقسيم الجغرافي لسوريا وأعضاء المجتمع المدني وممثلي الضحايا وذوي الحقوق وأكاديميين حقوقيين مستقلين ويتمتعون بالكفاءة والنزاهة داخل المجتمع السوري.
- مشاورات المشاورات: سياسات الانفتاح لا الانغلاق
نهج العدالة الانتقالية تنص على أن من ضمن نجاح مسار أو عمليات العدالة في المجتمعات الخارجة من النزعات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، أن تضع ضمن أجندتها التفاعل مع الاستشارات القانونية والتقنية من فاعلين آخرين على مستوى الدولي كالمفوضية السامية لحقوق الإنسان التي تساهم بدورها في تشجيع مشاركة الضحايا وذوي الحقوق في المشاركة في العملية برمتها أمام انعدام الثقة بين الفاعلين، وكما يلعب هذا الفاعل الدولي في تعبئة الموارد المالية والمادية في تتبع مسار المشاورات الوطنية، ويؤمن نجاح التجربة ونشر الثقة بين المواطنين في أجهزة الدولة الذي عانوا منه الويلات في الماضي.
كما أن المشاورات الخارجية تشكل كذلك مداخل أساسية سواء تعلق الأمر بمعطيات وبيانات في مختلف الدول الجوار أو غيرها، إلى جانب الاستفادة من تدريبات أو دورات تكوينية من خلال جمعيات المجتمع المدني أو المراكز البحثية التي طبقت فيها تجارب العدالة الانتقالية.
- المشاورات الوطنية: الإفلات أو عدم الإفلات من العقاب
تثير إشكالية المحاسبة في سوريا نقاشات واسعة بين التأيين والمعارضة، علما أن الموضوع يشكل مخاطر على نجاح أو عدم نجاح التجربة في رمتها مع العلم أن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني تؤكد 73 في المائة متمسكة في محاسبة المسؤولين السابقين عن الانتهاكات في سوريا.
من هم الأشخاص المتورطون في الانتهاكات الواسعة في سوريا؟ كم عددهم؟ هل انتهاكاتهم كانت نتيجة أوامر وفق إطار قانوني لسوريا أم خارج الإطار القانوني؟ هل سوريا الجديدة ستوفر لهم السجون ومراكز الاعتقال؟ هل سيتم العزل السياسي للأفراد الذين كانوا ينتمون لحزب البعث؟ كيف يمكن لنا البناء دون الهدم؟.
إن التفكير في وضع استراتيجية سورية لمبدأ عدم الإفلات من العقاب وفق المبادئ الدولية لحقوق الانسان والقانون الإنساني يحتاج إلى المشاورات التي تهدف إلى الإصلاح القانوني والمؤسساتي على مستوى سوريا واستحضار العقلانية والحكمة في القرار ودعوة الدولة السورية في الانخراط في المنظومة الدولية لحقوق الانسان والنظام الأساسي لروما…. وإقرار المصالحة الوطنية عوض العدالة الانتقامية، ايمانا أن تطبيق العدالة الانتقالية جاءت نتيجة ضعف وهشاشة العدالة التقليدية.
فيما يمكن إنشاء محكمة خاصة في اطار الحكومة الانتقالية بموجب مرسوم وأن يشمل جرائم الحرب والابادة الجماعية، ودعوة المحكمة الجنائية الدولية بعد التوقيع على الاتفاقيات الدولية ذات صلة في التعاون ودعم أحكامها وأن يتم تسليم المطلوبين عن الجرائم الكبيرة للمحاكمة العادلة.
وفي الختام، فإن المشاورات تشكل مداخل أساسية لترضية مختلف الأطراف داخل سوريا لأجل الاجماع على مستقبل العدالة الانتقالية لأن نجاح أي تجربة تعود إلى استحضار الخصوصيات والبنية الثقافة للمجتمع مع تحديد حاجيات وأوليات الضحايا وذوي الحقوق في تحقيق آليات العدالة الانتقالية من خلال معرفة الحقيقة وتقديم التعويضات للضحايا وذويهم وجبر باقي الأضرار واسترداد الحقوق في بعدها الدولي، إلى جانب القيام بالإصلاحات القانونية والمؤسساتية وخصوصا نزع السلاح لأطراف المتصارعة مع جهاز الدولة وتأهيلهم بعد إدماجهم في قطاع الجيش وحفظ ذاكرة وتقديم ضمانات لعدم تكرار الانتهاكات في المستقبل.
وعليه، فإن المشاورات في سوريا تستدعي الوقوع على جميع الملفات والاطلاع على جميع البيانات وتحري المعطيات من جميع المناطق الجغرافية، إلى جانب المشاورات في إعداد قانون أو نظام العدالة الانتقالية واختيار الأعضاء وطرق جبر الضرر وغيرها من آليات العدالة الانتقالية المزمع تطبيقها في سوريا مع مراعات حقوق الأقليات والابتعاد عن الانتقام وإقرار مقومات المصالحة الوطنية والتعددية السياسية والمدنية.
للاطلاع على هذا المقال من مصدره انقر هنا