تقرير تقديم كتاب حول موضوع:الذاكرة السياسية والعدالة: المغرب/الارجنتين

تقرير تقديم كتاب حول موضوع: الذاكرة السياسية والعدالة الانتقالية بالمغرب:المغرب/  الارجنتين، دراسة مقارنة

 للكاتب عبد الواحد بلقصري، باحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة

العدالة الانتقالية /المفهوم والمكونات

ساعد تعاطي مجلس الأمن مع التجارب الوطنية للعدالة الانتقالية على التقدم في بلورة وإقرار المفهوم الدولي للموضوع، انطلاقا من حاجيات ومتطلبات سيادة القانون والعدالة
الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع، حيث اعتبر:

  • العدالة والسلام والديمقراطية، ليست أهدافا يستبعد كل منها الآخر، وإنما هي
    بالأحرى حتميات تعزز كل منها الأخرى، ويتطلب العمل من أجل تحقيقها، في
    أوضاع ما بعد الصراعات الهشة، تخطيطا استراتيجيا للأنشطة، وتكاملا صريحا
    بينها وترتيبا حكيما لها ؛
  • أظهرت تجربتنا في العقد الماضي بشكل واضح أن توطيد أركان السلام في فترة ما
    بعد الصراع مباشرة، وصيانته في الأجل الطويل، لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان السكان على ثقة من إمكان كشف المظالم عن طريق الهياكل الشرعية لتسوية
    المنازعات بالوسائل السلمية وإقامة العدل بشكل منصف؛
  • ويشمل مفهوم “العدالة الانتقالية” الذي يتناوله هذا التقرير كامل نطاق العمليات
    والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركته من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة. وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء، مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية أو عدم وجودها مطلقا ( ومحاكمات الأفراد، والتعويض، وتقصي الحقائق، والإصلاح الدستوري، وفحص السجل الشخصي للكشف عن التجاوزات، والفصل أو اقترانهمامعا “

أهداف لجان الحقيقة والانصاف بالنسبة للمجتمع  :

تشترك لجان الحقيقة بالنسبة للمجتمع في أهداف خاصة تتمثل في:

  • إزالة الطابوهات والمحرمات التي طبعت علاقة المجتمع بالانتهاكات الجسيمة،
    واختراق ثقافة الخوف ونشر ثقافة الاعتراف بها؛
  • الإقرار العمومي بحق المواطنين في الاستماع والتعرف على ماضي الانتهاكات
    الجسيمة لحقوق الإنسان وعلى حقهم في إبداء الآراء والحوار العمومي .

أهداف لجان الحقيقة بالنسبة للكشف عن الانتهاكات :

تشترك لجان الحقيقة في الكشف عن حقيقة الانتهاكات من حيث:

  • التصدي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من حيث التحري باستجماع القرائن
    والأدلة والبراهين والشهادات من كافة المصادر المتنوعة؛
  • تحليلها في ضوء معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني،
    حسب الحالة؛
  • تحليلها في ضوء السياقات العامة أو الخاصة المرتبطة بها، ومن حيث آثارها
    المباشرة وغير المباشرة على الضحايا والمجتمع؛
  • توثيقها في إطار السجل التاريخي، كانتهاكات حصلت في الماضي حفاظا على ذاكرة
    الأفراد والمجتمع .

أهداف لجان الحقيقة بالنسبة للثقافة الديمقراطية :

  • بعث أو خلق أو غرس، أجواء من الحوار والتناظر الحر السليم حول ماضي الأمة أو
    المجتمع والطريقة التي تعامل بها مع الانتهاكات
  • إثراء الحوار بين الأخصائيين والأكاديميين والجامعيين حول سياقات الانتهاكات
    ودور الدولة والجماعات حول قضايا العنف؛
  • تعزيز الإبداعات الأدبية الفنية ومختلف الأجناس التعبيرية؛
  • قيام وسائط الإعلام السمعي البصري والصحافة المكتوبة بتتبع أحداث ووقائع العدالة
    الانتقالية نقلا وتحليلا وتعقيبا؛

أهداف لجان الحقيقة من حيث تعزيز دولة الحق والقانون  :

  • دراسة وتحليل أوجه الخصاص التي طبعت – في الماضي -الضمانات
    الدستورية والقانونية، على مستوى تعزيز الفصل بين السلط التنفيذية والتشريعية
    والقضائية وتعزيز الحوار الوطني السياسي والمدني والأكاديمي بخصوص
    تقوية الضمانات الدستورية، إذ غالبا ما تنطلق البلدان في مراجعة دساتيرها
    الوطنية غداة الأعمال التمهيدية للعدالة الانتقالية أو بعد انتهاءها؛
  • القيام بدراسات لأوجه الخلل والضعف والفراغ في الأنظمة القانونية الإجرائية
    والجوهرية من حيث حماية حقوق الإنسان وما يتعلق بالحق في الحياة والمعاملة
    والاحتجاز وضمانات المحاكمة العادلة؛
  • تحليل طرق عمل الأجهزة والأنظمة المرتبطة بالحكامة الأمنية والضبط الجنائي
    والرقابة القانونية عليها من خلال تقديم أجوبة حول تطوير السياسات العمومية
    للدولة في مجال حكم القانون والحكامة الأمنية؛

أهداف لجان الحقيقة على صعيد النهوض بحقوق الانسان   :

تساعد لجان الحقيقة والمصالحة على إطلاق حوارات عمومية واسعة النطاق
بخصوص النهوض بثقافة حقوق الإنسان، كما تساهم توصياتها في إطلاق مبادرات وسياسات
عمومية ذات شأن كبير، ومن ذلك:

  • الدعوة إلى وضع خطة وطنية تشارك فيها كافة الأطراف، الحكومة والمجتمع
    المدني والجامعة في مجال الديمقراطية والتربية على حقوق الإنسان؛
  • وضع برامج التدريب والتكوين المستمر، لفائدة القضاة وقوات الأمن والموظفين
    المكلفين بإنفاذ القوانين …..؛
  • نشر تقرير لجنة الحقيقة والتوصية بتقديمه في أشكال وصيغ كفيلة بتداوله على
    نطاقه الواسع .

أهداف لجان الحقيقة من حيث تقويم المجتمع المدني  :

تساهم لجان الحقيقة بشكل فعال في تطوير آليات ودور وفعالية المجتمع المدني،
وتقدم تجارب العدالة الانتقالية إسهامات متنوعة من حيث تنمية وتقوية أدوار المجتمع
المدني، وفي هذا الإطار يمكن تسجيل:

  • أن بعض لجان الحقيقة، شكلت امتدادا للديناميات التي أطلقها نشطاء حقوق الإنسان،
    وحركات الضحايا أقارب أو عائلات الضحايا، حيث تشكل بعضها من قادة المنظمات
    الحقوقية أو هذه الحركات؛
  • تشكلت بعض لجان الحقيقة في ضوء مشاورات معمقة ساهم فيها ممثلو منظمات
    المجتمع المدني وحركات الضحايا وأقارب وعائلات مجهولي المصير؛
  • مكنت لجن الحقيقة من خلق أجواء نشأت في إطارها جمعيات جديدة مهتمة بالذاكرة
    وجبر الأضرار الجماعية ومتابعة توصياتها

لجان الحقيقة والإنصاف:

  • هيئات مؤقتة غالبا ما تعمل لمدة عام أو عامين؛
  • هيئات معترف بها رسميا، مفوضة من قبل الدولة وتستمد صلاحياتها منها، وفي بعض الأحيان من المعارضة المسلحة بالإضافة إلى الدولة، أو من اتفاقية سلام في إطار الأمم المتحدة؛
  • هيئات غير قضائية، بالمعنى الدستوري للسلطة القضائية؛
  • لجان تتمتع باستقلالية؛
  • عادة ما تنشأ في غمار عملية تحول وانتقال، إما من الحرب إلى السلام أو من الحكم التسلطي إلى الديمقراطية؛
  • تصب اهتمامها على الماضي؛
  • تحقق في أنماط انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتكبت على مدار فترة من الزمن، لا حول حدث واحد بعينه؛
  • تختم عملها بتقديم تقرير نهائي يضم استنتاجاتها وتوصياتها؛
  • تركز على انتهاكات حقوق الإنسان على أساس المعايير الدولية ذات الصلة في مجال
    حقوق الإنسان .

المنافع المحتملة من إنشاء لجان الحقيقة، كونها :

  • تساعد على إثبات الحقيقة بشأن الماضي؛
  • تساعد على محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان؛
  • توفر منبرا عاما للضحايا؛
  • تحفز على النقاش العام وتثريه؛
  • توصي بتعويضات للضحايا في إطار جبر الأضرار؛
  • توصي بالإصلاحات القانونية والمؤسساتية اللازمة؛
  • تعزز المصالحة الاجتماعية؛
  • تساعد على تعزيز التحول الديمقراطي

شهد المغرب عند نهاية القرن التاسع عشر أحداثا سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع. أطرت بقوة جدوى أعمال فكرة الإصلاح بصيغة السياسية والدستورية وكان لها مركز الثقل في الحياة السياسية التي طبعت مغرب ما قبل الاستقلال، لكنه بعد حصول المغرب على الاستقلال عرف المغرب المستقل أحداث مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، كان لها تأثير كبير على الذاكرة الجماعية للمجتمع المغربي، وشكلت هاته الأحداث عقبة في دمقرطة الحياة السياسية بما يضمن حرية المواطنين وضمان حقوقهم في العيش في ظل نظام ديمقراطي.

ومع بداية عقد التسعينات ومع إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين أصبح الوقوف على الذاكرة السياسية للمغاربة ومدى تقويمها مثار اهتمام العديد من الفاعلين الدولتين وغير الدولتين والسياسيين والحقوقيين والأكاديميين. وجاء هذا الاهتمام بعد الموجة الثالثة للديمقراطية الذي جسدته العديد من تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم، وذلك بالقطع مع ممارسات النظام السياسي السابق عبر مسلسل التسوية غير القضائية للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، هذه الدينامية لتجاوز مخلفات الماضي الأسود، انطلقت بإصلاحات ضرورية لترسيخ دولة الحق والقانون. إن الدخول في تجربة العدالة الانتقالية عبر مفهوم المصالحة الذي يربط بالأساس طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة ومدى تقويم هاته العلاقة وإعادة الثقة، جاء طبقا لسياق سياسي ذو مرحلة قصيرة، شكلت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة مضمونه الحقيقي، وكما عبر النص المحدث لهيئة الإنصاف والمصالحة الذي أكد على تصالح المغاربة مع تاريخ بلادهم عبر مرحلة تمت من الاستقلال حتى نهاية التسعينات التي يغطيها البحث والتجربة وتسليط كل الأضواء الكاشفة عن مرحلة الصراع المضطرب والمرير الذي عرفه مجتمعنا، بما يدفع في اتجاه المقاربة الموضوعية والعقلانية المستوعبة للسياق العام السوسيولوجي للانتهاكات. إن مسلسل التسوية والمصالحة مع الماضي يبرهن عن مرحلة هامة يجتازها المغرب دولة ومجتمع، من أطوار تفعيل أدبيات الإصلاح كشرط لوجوب نجاح الانتقال الديمقراطي وتوطيد دولة الحق والقانون وترسيخ وضمان حقوق الإنسان واحترامها.

وقد شكل موضوع الذاكرة السياسية والعدالة في الآونة الأخيرة اهتمام مختلف الفاعلين السياسيين والحقوقيين هذا الموضوع الذي جاء نتيجة لبعض التراكمات التي عرفها المشهد الحقوقي. والتي خلقت لنا خطابا حقوقيا جمعويا اتخذ صيغا مختلفة، وطرحت عدة ملفات حقوقية على إثره بالمغرب منذ عقد التسعينات.

انطلاقا مما سبق يمكن طرح الإشكالات التالية:

الإشكال الأول: هل تقويم الذاكرة السياسية عبر العدالة الانتقالية من شأنه أن يؤدي إلى تجانس مجتمعي يمكن أن يؤدي إلى تحول ديمقراطي؟

الإشكال الثاني: هل من شأن تقويم الذاكرة السياسية عبر العدالة الانتقالية أن يحول الدولة المغربية من دولة خارقة للقانون في سنوات الجمر والرصاص التي عرفها التاريخ السياسي للمغرب المستقل إلى دولة حامية له ومكرسة لحقوق الإنسان؟

الإشكال الثالث: هل من شأن المصالحة التي قامت بها الدولة أن تعطينا اندماجا وطنيا عبر تصفية تراكمات الماضي السلبية. وبالتالي بناء الدولة الوطنية التي تعتبر المدخل الأساسي للدولة الديمقراطية الحداثية؟.

الإشكال الرابع: هل التجربة المغربية فيما يخص العدالة الانتقالية في مقاربتها بمثيلاتها من التجارب المقارنة متشابهة للتجارب التي عرفتها العديد من الدول أم أنها تجربة فريدة واستثنائية؟ وما هي الخصوصيات التي ميزت التجربة المغربية؟.

إشكالية الذاكرة السياسية والعدالة الانتقالية في المغرب

في البداية يصعب تحديد تعريف وسياقات مختلف لهاته المفاهيم بالنظر إلى تعددها وتشعب معانيها في نفس الوقت، هذا وسنوضح بعض المفاهيم المركزية.

الذاكرة: هي إعادة القراءة المشتركة لحالات الماضي، وإيجاد لغة مشتركة لتعريفه ومع تطور تجارب الدول فيما يخص العدالة الانتقالية أصبح هناك حق من حقوق الإنسان التي تنتمي إلى الجيل الثالث وهي الحق في الذاكرة..

أما المصالحة فهي إيجاد روابط بين فرقاء ومتعارضين تقتضي المصالحة التسامح ويقتضي هذا الأخير الاعتراف المصالحة لا تتأسس على أن التجاوز بل يجب أن يضفي في الانتهاكات إلى الحقيقة التي تعتبر أول شرط للمصالحة.

أما العدالة الانتقالية فهي تتمظهر كقرارات وطنية أو دولية أو على شكل لجان للحقيقة، فهي تقوم على سيرورة المصالحة والتسامح. والتسامح لا يعني النسيان أو المصالحة كما لا تعوض عدم العقاب.

ومفهوم العدالة الانتقالية له دلالات مختلفة. البعض يعتبره تجاوز تصفية الماضي عبر الانتقال إلى الديمقراطية عبر التداول السلمي، وذلك بتصفية تركة أحقاد الماضي والبعض الآخر يعتبر تقويم الذاكرة الجماعية لمجتمع ما عرف سنوات الرصاص أو صراع متوتر بين الدولة ومعارضيها أفضى إلى ضحايا ومعتقلين سياسيين ومنفيين، عبر التسامح والاعتذار وجبر الضرر الجماعي إذن تختلف مفاهيم العدالة الانتقالية حسب خصوصيات كل بلد على حدة ليس هناك مفهوم محدد وثابت للعدالة الانتقالية.

الأحداث السياسية الكبرى والخروقات الناتجة عنها:

منذ الاستقلال عرف المغرب الكثير من الأحداث السياسية، والهزات الاجتماعية، والحركات الاجتماعية المرتبطة بدوافع سياسية، بدءا بالصراع حول المضمون الذي يأخذه الاستقلال، والاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تسير عليها البلاد، والكيفية التي يجب أن تدبرها شؤونه، وطبيعة نظام الحكم ، وعلاقة الحاكمين بالمحكومين.

ترتب عن هذا الصراع أحداث دموية عنيفة، رسمت الخطوط العريضة للتاريخ السياسي الحديث بالمغرب (الريف 1958) ـ (الدار البيضاء 1965-1981) ـ (مراكش ومدن الشمال 1984) ـ (فاس – طنجة 1990)، بالإضافة إلى اعتقالات ومحاكمات سياسية شاملة (1963-1969-1971-1972-1973-1977-1981-1984-1986-1990)، كما عرف تاريخ الصراع بالمغرب كذلك، أسلوب الاغتيال السياسي (بنبركة ـ بنجلون ـ كرينة ـ زروال ـ التهامي)، والنفي الاضطراري.
هذه الخصوصية الحقوقية تاريخيا وحضاريا، دفعت المغاربة إلى الإيمان بالفكر الحقوقي، لما يحمله من رمزية كونية، وخير تعبير عن بناء مجتمع ديمقراطي، واحتلال العمل في مجال حقوق الإنسان لموقع متميز في إطار الصراع الديمقراطي، هذه الدينامية تزامنت مع تحولات سياسية وجيواستراتيجية على المستوى العالمي، جعلت من حقوق الإنسان وسيلة للضغط على الدول النامية من بينها المغرب، والإسراع في إنشاء مؤسسات وطنية لحقوق الإنسان، تتوازى في العمل الحقوقي مع الجمعيات والإطارات الجماهيرية المدافعة عن حقوق الإنسان.2

المقاومة التي أفرزها الشعب المغربي للكفاح من أجل الاستقلال، دفعت الإقامة الفرنسية إلى تقديم تنازلات في إطار التفاوض عبر ما يعرف بـ ” إيكس ليبان” توجت بإعلان الاستقلال.
إبان الاستقلال، بدأت إشكالات تطرح، والمهام المنتظرة للمغرب المستقل، انطلقت من مضمون الاستقلال، والتوجهات العامة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا المؤطرة لحياة المجتمع المغربي وبناء الدولة العصرية.

الأمر الذي كان باعثا إلى بروز الكثير من الأحداث السياسية، والهزات الاجتماعية مقترنة بما هو سياسي وإيديولوجي، من خلال التفاعل والتناقض بين القوى المتواجدة بالساحة الوطنية طوال الفترة المراد دراستها، وقصد بلوغ هذا الهم، بالاستناد إلى طبيعة المرحلة وتداعياتها، وآليات بناء مرحلة جديدة، سينصب عملنا على معالجة الوقائع السياسية، عبر تقسيم التاريخ السياسي الحديث إلى مبحثين، نتناول في المبحث الأول الصراع حول السلطة السياسية عبر مطلبين: المطلب الأول: 1956-1960، المطلب الثاني: 1960-1974.

وندرج في المبحث الثاني على آليات حسم الصراع حول السلطة السياسية، بدراسة مرحلتين في الصراع حول السلطة السياسية

تميز الصراع حول السلطة، إبان الاستقلال بزخم كبير في الأحداث والوقائع حول مدى ترجمة الاستقلال، وبناء مؤسسات سياسية ودستورية، تؤشر على مقومات الدولة العصرية. : 1956 إلى 1960
أثناء حصول المغرب على الاستقلال واصطدامه بالإرث الثقيل الذي خلفه المستعمر، والاتجاه في العمل نحو تأطير الحياة المجتمعية للمغرب المستقل وبناء الدولة الحديثة وإقامة مؤسساتها.
مقاومة الحماية الفرنسية أبرزت التفاف مكونات الحركة الوطنية والشعب المغربي حول الملك محمد بن يوسف على اعتباره يجسد الشرعية المغربية، وتتويج ذلك بإجراء مفاوضات شكلت نقطة تحول في الانتقال من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال، الأمر الذي أفرز اختلافا كبيرا حول شكل النظام، نوع الملكية المعتمدة، ونسخ التحالفات، وفتح أوراش التدشين، بالنهج الذي يدفع إلى تحصين حياة المجتمع المغربي، وتفاديا للاصطدام، وتكريس هيمنة الحزب الوحيد، الشيء الذي جعل السلطان يحتكر السلطة التنفيذية من خلال لعب الدور المحوري في التدبير السياسي، وحمل مشعل تسيير شأن الأمة، كل ذلك لم يكن ليتم دون الدخول في إحداث مؤسسات (مؤسسة الجيش) وتقزيم عوامل قوة الحركة الوطنية، عبر تفكيك جيش التحرير، بالتصفية والقمع والاحتواء، وشن المؤسسة العسكرية الحديثة التكوين لحملات عسكرية، لا تخلو من إراقة الدماء.

الهجوم على عامل إقليم قصر السوق، الراشيدية حاليا ـ عدى وبيهي وأنصاره 1957 بعد تمرده على السلطة رغم ولاءه لمحمد الخامس، وتؤكد بعض المصادر أنه كان مدعوما من قبل الفرنسيين في الخفاء من أجل منع وصول السلاح إلى الثورة الجزائرية، وتم إخماد التمرد وإلقاء القبض على عدي وبيهي والحكم عليه بالإعدام.

بعد إصدار ” حركة التحرير والإصلاح الريفية” لميثاقها يوم 7 أكتوبر 1958، وتشكيل تنظيم مسلح بحمل اسم ” جبهة النهضة الريفية” بهدف تسيير الريف من طرف الريفيين، اندلعت مواجهات ومعارك قوية بين الجيش المغربي والريفيين، عرفت قصفا جويا يضع حد للانتفاضة الريفية، خلف العديد من الضحايا، لم يتم تحديد عددهم إلى الآن.

كل ذلك من أجل وضع حد لكل الميولات نحو الاستقلال عن الملكية، وتجسيد هذه الأخيرة لخيارها السياسي والإيديولوجي داخل المجتمع المغربي.

أسس الملك محمد بن يوسف، جمعية وطنية استشارية تتكون من 78 عضوا، ضمت أعضاء الحركة الوطنية بما فيهم التنظيم القوي حزب الاستقلال تفاديا لمواجهته، ومن ثمة العمل على بلورة القواعد الدستورية والقانونية، توج ذلك بتشكيل حكومة عبد الله إبراهيم، لوضع النصوص القانونية بما يتلاءم ودور الملكية التقليدية، وتحديد الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية، من خلال تصريف مشاريع لإنجازها، وبالتالي بناء الذات الوطنية للمغرب المستقل.

كل ذلك حدث في ظل التناقضات التي تعتمد وسط الساحة الوطنية سياسيا وإيديولوجيا، انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ذو التوجه اليساري الجذري عن حزب الاستقلال، وللقصر قسط في حدوث ذلك. ليأخذ الصراع مسار آخر كما يؤكد الدكتور عبد الله ساعف “الهاجس الذي كان يحرك الأطراف المتصارعة بما فيهم الدولة هو السيطرة على المجتمع، والتحكم في الأدوات القمعية والإيديولوجية، وطرح بدائل مجتمعية متناقضة”.

هذا الصراع المحتدم، دفع الملكية إلى التفكير في وضع دستور، يؤطر وينظم الحياة السياسية والعلاقات بين الحاكمين والمحكومين، ويحدد اختصاصات السلط، لكنه لم يتقدم نظرا لمقاطعة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لمجلس الدستور المشكل من قبل الملك، ومطالبته بانتخاب جمعية تأسيسية تشرف على وضع الدستور.

إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، تعني وضع حد لحكومة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبالتالي وضع حد لنهاية مشاريعها، الأمر الذي اعتبر آخر مسمار يدق في نعش العلاقة بين القصر والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبالتالي حدوث تطور في الصراع خاصة بعد اعتلاء الحسن الثاني سدة الحكم.

: 1960-1974

التصور الذي تبناه محمد بن يوسف للملكية، لم يكن نفس التصور الذي جسده الحسن الثاني بعد وصوله الحكم، إذ سعى إلى إسباغ الطابع الامتيازي للملكية داخل الحقل السياسي المغربي وعمل على تكييفها، وآليات الديمقراطية، مع الحفاظ على جوهرها، في أن يسود الملك ويحكم، بعد التصفيات التي قام بها ضد قادة جيش التحرير وعناصره، وهجومه الشرس، على المناطق المنتفضة، جعل القصر سيدا بدون منازع في الساحة السياسية

دخول مرحلة الستينات، تميز بصراعات سياسية حادة، وأحداث دموية، هزت الاستقرار السياسي للمغرب الحديث، وحتى الحكومات الأربعة الأولى لم تتمكن من القضاء على تلك الاهتزازات، لكون تلك الصراعات. كما اعتبرها الدكتور عبد الله ساعف ” لم تسايرها مبادرات اجتماعية واقتصادية، ولم تكن فيها إنجازات مهمة

ما أسفرت عنه التجربة السياسية للحسن الثاني في بدابة حكمه، العمل على وضع قواعد مكتوبة تكون بمثابة دستور، يشرعن لإيديولوجية النظام الملكي، ومركزة السلطة في يد الملك بشكل مطلق دستور 1962 حزب الاستقلال اختار مؤازرة الملك، والتصويت بنعم على الدستور الممنوح، في حين اثار اعتراضات قوية على مضامنيه واسلوب وضعه من قبل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتنظيم هذا الأخير لحملة دعاية من أجل مقاطعة الاستفتاء حوله، وبالتالي فتح خط المواجهة مع القصر.

نظمت أول انتخابات تشريعية سنة 1963، التي أعطت الفوز لحزب ” الفديك” الذي تأسس حديثا بعد أن لعبت وزارة الداخلية دورا كبيرا في حسم النتائج، وضع الخريطة السياسية الجديدة، وإصدار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مواقف بأن العملية الانتخابية شابها التزوير، وجعل ذلك باعثا على اتخاذ موقف المقاطعة في الانتخابات الجماعية، الأمر الذي دفع النظام اللجوء إلى شن حملة عنف كرد فعل عن التهمة الموجهة إليه من النظام في كونه حضر لمؤامرة الإطاحة به. وبالتالي تعليق المسلسل الديمقراطي، وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد.

أمام تصدع ” الفديك ” في مهمتها المتمثلة في مساندة السياسة الحكومية، ومن جهة ثانية فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة، وضرب مصداقية شعارات بداية الاستقلال المتمثل في تكريس مجتمع العدالة والرفاه.

جاء رد فعل الشارع المغربي في مظاهرة 23 مارس 1965 بالبيضاء، ليجسد أول مواجهة بين الحكم والشارع، كان عنوانها العريض، العنف الدموي، 1525 دفنوا بالقرب من مطار محمد الخامس حسب تصريحات أحمد البخاري عميل المخابرات السابق.

غليان الشارع المغربي في البيضاء 1965، والمعارضة البرلمانية لحزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتقديمهما لملتمس الرقابة، دفع الحكم إلى الإعلان عن حالة الاستثناء طبقا للفصل 35 من الدستور، وإرفاقها بحل مؤسسة البرلمان، كل ذلك جعل ملك البلاد يعترف بـ ” أزمة حكم وسلطة ” زاد من تعميق الأزمة بالبلاد، اغتيال زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المهدي بنبركة بأيادي داخلية وخارجية، الشيء الذي أدى إلى الشلل والجمود في الحياة السياسية بالمغرب.
فرض حالة الاستثناء، أدى إلى تعطيل جل المؤسسات، وتكثيف الأجهزة القمعية لاستبدادها وظلمها، الاعتقالات والمحاكمات (1969-1970)، وتكريس الجمود السياسي، سرعان ما يستأنف بسلسلة مظاهرات جديدة للعمال والفلاحين كانتفاضة أولاد خليفة بمنطقة الغرب 1970، واستعمال الأجهزة العسكرية والأمنية، للرصاص الحي الذي خلف العديد من الضحايا.

كما لعبت الأحداث الدولية، الهزيمة العربية 1967 ضد إسرائيل وخروج مظاهرات الطلبة في فرنسا 1968، دور في إذكاء التساؤلات والإشكالات حول جدوى السياسات المتبعة داخل النخب اليسارية، فتشكلت تنظيمات ماركسية لينينية، تتبنى الثورة وإحداث القطيعة مع النظام، 23 مارس تأسست 1970 من مناضلين خرجوا من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عرفت في البداية بمنظمة (ب)، وإلى الأمام المكونة من مناضلين انشقوا عن حزب التحرر والاشتراكية وتأسست في غشت 1970 عرفت في البداية بمنظمة (أ)، واعتمد في قاعدتهما على القطاع المتعلم، والتحرك بسرية تنظيما، مما أربك الزمن السياسي للدولة، لتدخل هذه الأخيرة في سلسلة من الاعتقالات ومنطق القمع والتعذيب وتنظيم المحاكمات لاستنزاف قواهما وكوادرهما.

هذا التنامي والتطور السياسي والاجتماعي واحتدادهن استطاع أن يصدع أجهزة الجيش، للقيام بمحاولتين انقلابيتين، كتعبير عن امتداد الصراع داخل المجتمع المغربي

وبهدف تحريك الوضع السياسي والاقتصادي العام بمجموع البلاد، وإنعاش قنوات الحوار والتواصل مع المؤسسة الملكية، واتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية جذرية، تنقذ البلاد من وضعها المأزوم، بعد إقصاء الرموز العسكرية والأمنية الشديدة المعارضة لقوى الحركة الوطنية، خرج تنظيم سري للفقيه البصري يهدف شن ثورة عارمة على غرار ما كان سائدا في بلدان العالم الثالث، التي تناضل ضد الإمبريالية والاستعمار والصهيونية، والرجعية المرتبطة بهدف القوى، وقعت أحداث مولاي بوعزة بإقليم خنيفرة 1973 بمبادرة تنظيم الفقيه البصري البلانكي، لتواجه بحزم من قبل الدولة، وشن مصالح الأمن والجيش لحملة على المنطقة، بالمداهمة ونزع الممتلكات والتعذيب والاعتقال وإجراء محاكمات إدانة الانتماء إلى تنظيم 3 مارس 1973 تراوحت بين السجن والإعدام.

بعد استنفاد شعارات المرحلة لإمكانياتها، واحتداد الصراع السياسي، منذ وضع دستور 1962، واعتبار حالة الاستثناء أزمة سياسية داخل المرحلة، فرضت على الحكم، إعادة إدماج الحركة الوطنية في اللعبة السياسية ابتداء من دستور 1972، وخطوة إعادة الإدماج لن تأخذ مداها إلا سنة 1974 مع ” الإجماع الوطني”.

حسم الصراع حول السلطة السياسية

بوادر حسم السلطة السياسية بإقالة حكومة عبد الله إبراهيم 1961، واستئثار الملك بالسلطة التأسيسية في وضع دستور 1962، بدل وضعه من قبل مجلس تأسيسي منتخب كما كانت تطالب الحركة الوطنية، ستجد هذه الأخيرة نفسها عاجزة عن أي رد فعل تجاه احتداد منهجية القمع، ومن ثمة حدوث أزمة سياسية بعد مقاطعة دستور 1970 والبرلمان الناجم عن انتخابات 1970، ستعرف نهايتها بعد التعديل الدستوري لسنة 1972، وبلورة انفراج وإدماج الحركة الوطنية من جديد في اللعبة السياسية، بعد طرح مفهوم الإجماع الوطني عام 1974، واحتداد الصراع الاجتماعي والاقتصادي، وأخذه لأبعاد هيكلية وبنيوية، تدفع في اتجاه حل الأزمة من خلال مفاتيح الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بإجراءات مسطرية وقانونيةـ تروم بناء دولة المؤسسات المشروعة ودولة الحق والقانون لتحقيق الديمقراطية.

انطلاقا من ذلك سنعمل على تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، كل واحد يؤطر لمرحلة ويؤرخ لظروفها وأبعادها.

1974 – 1990

الظرفية السياسة لبداية السبعينات، تميزت بإدماج الحكم للمعارضة في اللعبة السياسية، بعد قبول قواعد اللعبة، كما يحددها الحكم ” الاعتراف بالقواعد الشكلية، كقدسية الملكية والإسلام، والقواعد غير المكتوبة كالإجماع حول الثوابت وتحديد الاختيارات الوطنية… من خلال تأكيد الهوية الوطنية والقومية، قضية الصحراء 1974، وبعث كثيبة جنود مغاربة إلى الجولان 1973، أدت إلى تمثين الجبهة الداخلية، وما تطلبه من مستلزمات، يتدخل فيها الإيديولوجي عبر ما يسمى الإجماع الوطني ” والاقتصادي عبر ما يسمى “بالمغربة ” والانكباب على تصريفه سياسيا عبر ما يسمى ” بالمسلسل الديمقراطي”.

الانتخابات التشريعية لسنة 1977، شاركت فيها كل أحزاب الحركة الوطنية، واعتبرها الأستاذان عبد الرحمان القادري وخالد الناصري، تفتقد للطابع التنافسي، أولا لعدم نشر نتائجها، وثانيا عدم نزاهتها. كما وضح خالد الناصري أن الانتخابات في المغرب تلعب دورا في إضفاء المشروعية على توزيع سابق وضعه الجهاز الإداري الذي لا يحترم حرية الانتخاب وإرادة الناخبين.
هذه الانتخابات سجلت حد أدنى من الإدماج السياسي، وإصلاح الوضع دون المس بجوهر السلطة السياسية، التي استطاعت التكيف مع المحيط الداخلي والخارجي، وإعطاءها قيمة مركزية لميزان القوى بالشكل الذي يخدم أهداف ومصالح الحكم، بدءا بتلجيم كل الميولات الشعبية.
انتفاضة الخبز بالبيضاء 1981 بعد دعوة الديموقراطية للشغل إلى إضراب عام، عم أغلب أحياء البيضاء، وتدخلت قوى الجيش والشرطة، وثم إحصاء ما لا يقل عن 600 قتيل، وعدة اعتقالات ووصلها بالمحاكمات.

زاد من احتدام الصراع الاجتماعي، قبول المغرب بإعادة جدولة ديونه، وإقرار برنامج التقويم الهيكلي الذي يمتد من 1983 إلى 1993، ودفع الشعب المغربي لكلفته ماليا واقتصاديا واجتماعيا. ليخرج هذا الشعب عن صمته في مظاهرات بمدينة مراكش ومدن الشمال 1984، لم تخرج في مستوى قمعها عن انتفاضتي البيضاء 1965 و 1981 من حيث الاعتقالات الواسعة وإجراء المحاكمات أمام الثقل الذي يتحمله كاهل الشعب المغربي الناتج عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المنتجة للأزمة، لم يبق أمامه إلا معاودة الخروج إلى الشارع في بداية التسعينات وبالضبط 14 دجنبر 1990، استجابة منه لدعوة نقابتي الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، في مدن فاس وطنجة وغيرها .

عرفت مدينة فاس مواجهات عنيفة إثر تدخل الجيش وتجاوز الأحداث لرجال الشرطة، واستعمال الآليات العسكرية الثقيلة من مثل المدافع الرشاشة، خلفت 100 قتيل و 1000 معتقل صدرت في حقهم أحكام قاسية.

هذه المظاهرات الزاخمة خلال فترة الثمانينات وبداية التسعينات، أعطت مؤشر دفع المعارضة البرلمانية إلى تنظيم نفسها، ومساندة الشعب الفلسطيني والتضامن مع الشعب العراقي. ساهم في ذلك انهيار نظام القطبية الثنائية، والمبادرة بمطالب الإصلاح السياسي والإداري والقضائي مكن أجل تعبيد الطريق دولة الحق والقانون كمدخل للديمقراطية.

مرحلة 1990 إلى 1999:

التحولات السياسية والجيوستراتيجية على المستوى العالمي، بنهاية نظام القطبية الثنائية والضغط الاجتماعي المتزايد للشعب المغربي، وتنظيم المعارضة البرلمانية، وتهيكل المجتمع المدني، طغت المطالبة بالديمقراطية، وإحداث إصلاح سياسي وإداري وقضائي يواكب تيار العولمة الزاحف.

جعل النظام يقدم، على تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وجعله شرطا لإجراء قطائع مع ثقل الموروث الثقافي والمجتمعي، والإعفاء عن مجموعة من المعتقلين السياسيين سنة 1991. بروز الكتلة الديمقراطية، وتقديمها للمذكرة الأولى قبل وضع دستور 1992، الذي رفضته، باستثناء حزب التقدم والاشتراكية، وأعلن في ديباجة الدستور، عن تشبث المغرب بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليه عالميا، تلاه الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين والعفو عن المنفيين، ومؤسسيا إحداث وزارة حقوق الإنسان، وتنصيب المجلس الدستوري كآلية ديمقراطية للمراقبة الدستورية بما فيها القوانين الانتخابية.

هذه الخطوات خلقت انفتاحا سياسيا بين الحكم والمعارضة، بهدف توسيع المشاركة السياسية، وإرساء هيئات قارة لتنظيم الحوار وتعميق دراسة القضايا الكبرى المطروحة على البلاد، واقتراح السياسات والتدابير حول سبل معالجتها، الأمر الذي دفع الكتلة الديمقراطية إلى تقديم المذكرة الثانية للمطالبة بضرورة الإصلاح السياسي والدستوري، شكلت مدخلا لبروز مفهوم “التوافق” كشعار جديد يجمع بين الحكم والمعارضة البرلمانية، في تأطير الحقبة السياسية المقبلة.
انفرد الحكم بوضع دستور جديد سنة 1996، قبلته المعارضة البرلمانية -باستثناء- منظمة العمل الديمقراطي الشعبي – لتدخل في مسلسلات ” الحوار الاجتماعي ” وآخر للحوار السياسي، أدى كل منهما إلى تصريح مشترك، الأول بين الحكومة والباطرونا والنقابات، والثاني بين الحكومة والأحزاب السياسية، يدفع الأول في اتجاه ضمان سلم اجتماعي، والثاني ” للتوافق” حول اللعبة السياسية، من خلال التراضي حول القوانين المؤطرة للعملية الانتخابية.

وبالتالي التحول في طبيعة المعارضة السياسية بالمغرب، إذ لم تعد هناك معارضة الحكم بل أضحت معارضة صرفة للحكومة.

فهل نجحت سياسة التوافق فيما فشلت سياسة “الوحدة الوطنية” والإجماع الوطني ؟
هذه الدينامية الحاصلة في المشهد السياسي المغربي، شكلت طفرة نوعية في مجال الإصلاح السياسي والدستوري، بإثباتها لإرادة سياسية قادرة على تحصين المكاسب والمنجزات، وتحويلها إلى نقط ارتكاز صانعة لآفاق قادرة على مقاومة الممانعات والضغوط المضادة للإرادة القائمة في ميدان الإصلاح، بتشكيل حكومة التناوب التوافقي المنبثقة عن نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 1997 بقيادة عبد الرحمان اليوسفي.

حكومة التناوب التوافقي استطاعت أن تحدث تطورا إيجابيا لمؤسسة الحكومة مغايرة لحكومات عقد الستينات والسبعينات والثمانيات، بتحقيق نجاعة البرامج والسياسات العمومية عبر تخليق الحياة العامة، كمقوم للحكامة الجيدة، وتثبيت الشجاعة والجرأة في طرح أولويات الإصلاح. وفتح أوراشه المركبة، بدءا بتشجيع الاستثمار وخلق فرص العمل وتقليص العدد المهول للبطالة في حدود دنيا، مرورا بتكريس المساواة بين الرجل والمرأة في إطار الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وقوفا عند إصلاح المنظومة التعليمية والإدارية والقضائية. بالإضافة إلى المساهمة الفعالة في تعزيز استقرار البلاد وأمنها، وضمان انتقال الحكم في ظروف سلسة بعيدا عن كل الهزات والتوترات التي عرفها تاريخ انتقال الحكم في المغرب، والعمل إلى جانب الملك الجديد في بلورة العديد من النصوص والقواعد القانونية الهادفة إلى تحصين الحياة السياسية (مشروع مدونة الأحزاب ، مشروع القانون الانتخابي)، والاقتصادية (مشروع قانون الاستثمار)، والاجتماعية (مشروع مدونة التغطية الصحية، مشروع مدونة الأسرة..).

إذن حكومة التناوب استطاعت وضع التوجه الحازم نحو المستقبل، وتقعيد الخيار الديمقراطي المعبر عن المصلحة العليا للأمة، في تجاوب مع الإجماع الوطني، كالاعتراف بتاريخ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب المستقل، وتأسيس هيئة التعويض المستقلة إلى جانب المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان من أجل الوقوف على سنوات الرصاص وتجاوزها عبر جبر الضرر للضحايا، وفتح الطريق نحو التأصيل الدستوري لحقوق الإنسان كما هو متعارف عليه عالميا، ومن خلال الاستفادة من التجارب التي عرفتها شعوب العالم، بهدف خلق مجتمع ديمقراطي تسوده الحرية والعدالة والحق.

انطلاقا من الخصوصية على مستوى حقوق الإنسان، التي وشمت التاريخ الحديث للمغرب المستقل، وتفاعلات الصراع السياسي، حول ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان لما تحمله من رمزية عالمية، بهدف بناء مجتمع مغربي ديمقراطي بشقيه السياسي والشق الاقتصادي والاجتماعي، إلى الإيمان بالفكر الحقوقي عبر إطارات جماهيرية تناضل من أجل إعمال مبادئ حقوق الإنسان، واحترامها، وضمانها، وسيادتها لبناء مجتمع العدالة والحق، شكل أداة ضغط على الدولة، التي مافتئت تسرع إلى إحداث مؤسسات وطنية لحقوق الإنسان، تمثل صمام أمان للمجتمع المغربي، ودرع واقي ينظم العلاقات الاجتماعية.

وقد خلصت الدراسة الى الخلاصات التالية:

الخلاصة الأولى: إن القمع الذي سلط على الشعب المغربي كان قمعا سياسيا منظما، وممنهجا وشاملا، وامتدت آثاره إلى المجتمع برمته، ولازالت تداعياته ممتدة إلى الآن كل هذا خلق سحب الثقة بين الدولة والمجتمع، مما خلخل ذاكرة المغرب الجماعية، وتقويم هاته الذاكرة عبر هيئة الإنصاف والمصالحة اتخذ طابعا سياسيا لا حقوقيا، كل هذا جعل العديد من الحقائق مبتورة.
إن تقويم الذاكرة السياسية، يتطلب أولا دراسة أكاديمية للتاريخ السياسي للمغرب المستقل وجميع تشابكاته وحقائقه المعقدة.

وثانيا: التسوية العادلة لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنصاف يجب أن تتمثل في إنصاف الضحايا وتمتد إلى المجتمع برمته عبر إعادة بناء الثقة، ولن يتأتى ذلك بدون التأسيس لدولة ديمقراطية حداثية برؤية مستقبلية للأجيال القادمة. وهنا يأتي دور جميع الفاعلين السياسيين والحقوقيين ويبقى كذلك دور الأكاديميين يحتل مكانة مهمة باعتبار أن كتابة تاريخ المغرب المعاصر وبناء المستقبل منها على وجه الخصوص، لن يكون بدون مراكز البحث العلمي حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب، وذلك عن طريق تخصيص منح دراسية ووضع برامج مدعومة وتشجيع مبادرات علمية تضطلع بمهمة دراسة المرحلة من تاريخ المغرب المستقل وتسليط كل الأضواء على ملابساتها (1956-1999) وهاته الأمور الأساسية بدون الانفتاح على مختلف الجامعات وتخصصات الشعب التي تشملها (التاريخ، الفلسفة، علم الاجتماع، القانون، الأنتروبولوجيا.)
الخلاصة الثانية: إن أحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، شكل حدثا في التاريخ السياسي للمغرب المستقل وجاء في سياق تراكم عدة إجراءات تشريعية ومؤسساتية وسياسية اتخذتها الدولة في مجال حقوق الإنسان جاء ذلك نتيجة مجموعة من الفاعلين الحقوقيين عبر الاحتجاج الحقوقي ونتيجة لعوامل خارجية.

خلفت هاته التحولات ردود فعل مختلفة، اعتبرها البعض بداية انتقال ديمقراطي والبعض الآخر أكد على أنه انتقال سياسي معقد، والبعض أشار إلى أنه انفتاح سياسي لا غير. والبعض شكك في الكل واعتبره بمثابة انتقال محصور لم يبنى على قواعد المأسسة وعلى إرادة سياسية حقيقية.
الخلاصة الثالثة: إن المصالحة السياسية بحاجة دائما وفي كل المراحل إلى ثقافة سياسية جديدة، تمارس عملية القطيعة المعرفية والمرجعية مع ثقافة التعصب والإقصاء والنبد والعنف، لتؤسس لنمط سياسي جديد مبنيا على منظومة قيمية تتأسس على التسامح والحرية والإنصاف، والتجربة المغربية (تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة) حققت مصالحة سياسية بالرغم من نواقصها إلا أنها على الأقل (حاولت تبيان العنف السياسي للمغرب المستقل عبر منتوج وفتحت ولو نسبيا الباب الأكاديمي الاهتمام بهذا الموضوع لأن وكما تم التأكيد في بداية هاته الخلاصة إن المصالحة في حاجة إلى ثقافة سياسية جديدة. والثقافة السياسية لا تبنى في لحظة زمنية وإنما هي بحاجة إلى عملية تراكم معرفي ومجتمعي حتى تتشكل تلك الثقافة السياسية.

الخلاصة الرابعة: إن الدولة بفعل سياستها القمعية التي نهجتها الدولة ضد المعارضين السياسيين دعمت وشجعت كذلك انتهاكات ذات طابع اقتصادي واجتماعي وكانت تداعياته كارثية عن فئات اجتماعية عديدة، إن جبر الضرر الجماعي يرتبط ارتباطا وثيقا بالديمقراطية والحكامة الجيدة والحقوق المدنية والسياسية، لأن الخيار الديمقراطي ليس شعارا يرفع وإنما هو ممارسة اجتماعية وفعالة مفتوحة على جميع الشرائح المجتمعية التي بواسطتها يمكن تفعيل الممارسة الديمقراطية وتدليل معوقات التنمية وبالتالي إرساء نظام فعال من شأنه أن يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع ويقوم لنا الذاكرة الجماعية لجميع المغاربة لأنه لا مصالحة بدون حياة سياسية جادة ولا حياة سياسية جادة بدون ديمقراطية تسمح للجميع ممارسة دوره في البناء والتنمية.

الخلاصة الخامسة: بالرغم من أن خلاصات تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة تضمن العديد من التوصيات (الإصلاحات السياسية والدستورية منها على الخصوص، استقلالية فصل القضاء السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية واعتماد مبدأ البراءة والحق في المحاكمة العادلة، أولوية القانون الدولي على القانون الداخلي، تعزيز مراقبة دستورية القوانين تحقيق التجانس بين التشريع الجنائي والالتزامات الدولية، إصلاح القطاع الأمني، تبني وتنفيذ استراتيجية وطنية مندمجة لمكافحة الإفلات من العقاب اعتماد ودمج برامج للتنمية السوسيواقتصادية والثقافية لفائدة مجموعة من المناطق في إطار جبر الضرر الجماعي.

بالرغم من إيجابية هاته التوصيات ورغم العمومية المفرطة لبعضها فإن التقرير لم يشر من جهة لا إلى الانتهاكات الحقوقية ولا إلى أزمة الديمقراطية ولا إلى الرؤية الاستشرافية… إلى أين يسير المغرب؟ ومن جهة أخرى بالرغم من تكليفه للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بمتابعة التوصيات، إلا أنه لم يحدد الأطراف التي عليها متابعة هاته التوصيات وتفعيلها.

الخلاصة السادسة: إن خصوصيات التجربة المغربية بمقارنتها بالتجارب العالمية تجعلها فريدة واستثنائية، لكونها تجربة في ظل استمرارية نفس النظام السياسي. وكما أنه بالإضافة إلى أن التقرير لم يشر إلى أجندة الانتقال الديمقراطي، باعتبار أشار إلى محصلة الأحداث التي اعتبرها بمثابة تطور سياسي عرفه المغرب وأفرز لنا تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة التي اعتبرها تجربة أسست لعدالة انتقالية فريدة في العالم العربي والإسلامي، كل هذا يجعل البحث في هاته الأطروحة المتمثلة في الإشكالية المركزية التالية.

هل الوصفة المغربية فيما يخص إشكالية الانتقال الديمقراطي يمكن تقديمها كنموذج إرشادي، مثل الدول التي عرفت انتقال ديمقراطي وشكلت العدالة الانتقالية محورها الأساسي (جنوب إفريقيا ـ الشيلي ـ الأوروغواي ـ الأرجنتين)

الخلاصة السابعة والأخيرة: إن غياب الديمقراطية كانت السبب الأساسي في كل ما جرى، وإن معالجة ما اقترف لن يأتي أكله إلا عبر إرساء نظام سياسي ديمقراطي لأنه النظام القادر الوحيد على خلق الضمانات الضرورية لعدم عودة المغرب إلى الزمن الرمادي.