مقال الدكتور المصطفى بوجعبوط: “استدامة برامج التعويضات في سياقات العدالة الانتقالية:
لأجل المعالجة الآنية للملفات العالقة"
استدامة برامج التعويضات في سياقات العدالة الانتقالية: لأجل المعالجة الآنية للملفات العالقة
الدكتور بوجعبوط المصطفى
باحث في شؤون العدالة الانتقالية
لا شك ان العدالة الانتقالية تساهم إلى حد كبير في معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في بعدها الدولي أو الوطني، هذه المعالجة تنبني على قيم وطنية في بناء أسس أو تعاقد جديد بين مختلف الفاعلين لتحقيق الإنصاف العادل لجل الضحايا ولا يمكن اختزالها في مقاربة آنية ومستعجلة في طي نهائي دون معالجة نهائية.
فالعدالة الانتقالية تنبني على قيم أخلاقية وسياسية في المعالجة المنصفة لمختلف الضحايا سواء سياسيين أو غيرهم من الضحايا الذي ارتبط اسمهم بأحداث اجتماعية أو غير ذلك من الأحداث المرتبطة بالاحتقان السياسي خلال الفترة الممتدة بين 1956 و1999.
فمرور 20 سنة تقريبا عن تجربة هيأة الانصاف والمصالحة تطرح تساؤلات مهمة في سياقات مختلفة وفي نقد قيم الذات وقيم الآخر. لاشك أن التجربة لعبت دورا رياديا في التغير الفكري للمجتمع الذي أصبح متشبع بقيم الحقوق والحريات والتغير القانوني والمؤسساتي، كلها تهدف إلى قيم فضلى ترتقي بها المجتمعات التي تحاول القطع من انتهاكات والفظائع الإنسانية التي تجرد الإنسان من انسانيته في ظل اللبرلة الحقوقية.
فعشرينية العدالة الانتقالية بالمغرب ورثت ملفات عالقة يمكن استدامتها في البحث والتحري لأجل المعالجة النهائية والبحث على مداخل فضلى للمعالجة بعيدا عن تبخيس عمل الهيأة ولجنة المتابعة فالملفات العالقة أصبحت تؤثر على منجز العدالة الانتقالية وخير دليل ما رفع من التقارير الموازية للمجتمع المدني للجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري وما تطرحه الساحة الحقوقية من ملفات مرتبطة بالتعويضات الفردية (ملفات خارج الآجل) وحفظ الذاكرة والتقاعد التكميلي وكشف الحقيقة والرفاة ومواصلة الإصلاح القانوني…الخ.
كل هذا يطرح التفكير حول استدامة برامج التعويضات في سياقات العدالة الانتقالية، وهذا التفكير يقودنا إلى تساؤل هل الدولة المغربية لازالت مستمرة في وضع نهج المعالجة من إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؟ وهل الدول تمتلك الإرادة في مواصلتها لتمكين الضحايا من الموارد المالية الكافية؟ هل يمكن التفكير في إنشاء صندوق خاص لبرامج التعويضات؟. كيف يمكن البحث عن مصادر بديلة لدعم التعويضات؟
أولا يجب أن ننتبه إلى أهمية تقرير المقرر الخاص المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار “فابيان سالفيولي” سنة 2023 على أنواع التمويلات سواء كانت من لدن الدولة أو الجناة أو الجهات الفاعلة غير الحكومية المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان أو المجتمع الدولي أو الدول المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان…وغيرها.
هذا يطرح مجموعة من الملاحظات، يمكن الوقوف عليها وهي على النحو التالي:
الملاحظة الأولى: تتعلق بطرح الملفات العالقة للنقاش الحقوقي بإحصائها وتفيئها حسب الأحداث وتحديد لجنة مستقلة لأجل المعالجة مع تحديد سقف زمني للتنفيذ وأن ترتبط بملفات عالقة في ظل الهيأتين وملفات خارج الآجل… لأجل الإنصاف العادل للضحايا دون التميز في تلقي التعويضات فيما بينهم أو عدم الاستفادة من البرامج الإنسانية المرتبطة بالأساس بالتعويضات ذات بعد جغرافي إلى جانب حفظ الذاكرة كذلك في بعدها المجالي…وغيرها من الملفات.
الملاحظة الثانية: تشجيع المغرب على إنشاء صناديق وبرامج وطنية مخصصة لتعويض الضحايا الذين لم يتلقوا التعويض أو اعتبروا خارج الآجل وذلك وفق اختصاصات الزمنية لهيأة الإنصاف والمصالحة، غير أن هذا يجب أن يكون مدعما بإطار قانوني لأجل الاستدامة وأن تهدف تلك البرامج إلى تغيير وضعية الضحايا إلى أحسن وليس تقليص من آلامهم ومعاناتهم مع العلم أن أغلب برامج التعويضات في سياقات العدالة الانتقالية تعرف “فجوة في التنفيذ” حسب طرحه المقرر الخاص في تقريره لسنة 2014.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بأن ركائز العدالة الانتقالية مرتبطة فيما بينها دون إغفال آلية من آلياته الكبرى، ولكن في سياقات العدالة الانتقالية تثير إشكالية استدامة التعويضات ضمن الاكراهات والتحديات التي تعرفها نهج العدالة الانتقالية الدولية سواء الدول التي عرفت بتمويل التعويضات من ميزانيتها الوطنية أو غيرها …الكل يخضع إلى تأثيرات الفاعلون السياسيون ومدى ممارستهم الفضلى في تحقيق المصالحة والوحدة الوطنية. (فشل جنوب افريقيا في دفع تعويضات لجزء كبير من الضحايا).
الملاحظة الرابعة: تتعلق بتجارب فضلى في إنشاء صناديق التعويضات إنشاء جنوب أفريقيا فقا لقانون اللجنة “صندوق الرئيس” لتقديم التعويضات لضحايا الانتهاكات، وكذلك إنشاء رواندا صندوق المساعدة الوطنية سنة 1998، وأنشأت كينيا صندوق العدالة التصحيحية للضحايا سنة 2015، وتونس أنشئت صندوق الكرامة بموجب القانون الأساسي للعدالة الانتقالية، وصندوق بناء السلام في سيراليون. كما يمكن للدولة أن تفرض ضرائب معينة في سياستها لأجل تمويل برامج التعويضات، كما هو الشأن في تجربة جنوب أفريقيا حيث فرضت “ضريبة الثروة” على أغنياء جنوب أفريقيا إلى جانب الشركات التي كانت طرفا في الانتهاكات وبيرو كذلك فرضت ضريبة على شركات التعدين….غير أن جل الضرائب رفضت ولم تنفذ بعد. ويمكن إيجاد مدخل آخر لإنصاف الضحايا هو إعفائهم من الضرائب سواء كانت على الدخل أو على الشركات أو ممارستهم الاجتماعية.
الملاحظة الخامسة: تتعلق بالبحث عن التمويل في سياقات الانتقال الديمقراطي والمرتبط بالأساس بالشركات من خلال بناء النصب التذكارية المشتركة بين مختلف الفاعلين ومساعدتهم…وذلك لا ينقص من دور وريادة الدولة بل يبقى دورها مرتبط بأنواع أخرى من أشكال الجبر كالتأهيل الذي يحتاج إلى برامج ومشاريع طويلة الأمد كالتعليم ونمط عيش الضحايا وغير ذلك من التأهيل الصحي والنفسي للضحايا بالإضافة إلى تصميم برامج التعويضات الجماعية وتمويلها إلى جانب البرامج الإنمائية.
وفي الخلاص، فإن العشرينية من العدالة الانتقالية في المغرب تستدعي الوقوف قرب جبل والتأمل حول منجز العدالة الانتقالية ومحاولة معالجة ما تبقى من ملفات العالقة لأجل الوصول إلى قمة الجبل لتحقيق الإنصاف العادل بين المسافة التي تربط السفح بالقمة أي منجز العدالة الانتقالية بالمغرب. وكيف يمكن الحفاظ بهذا المنجز في القمة؟ وبالتالي، فإن استدامة التعويضات مرتبطة باستحضار قانون ينظم ذلك ويحدث صندوق التعويضات والبحث عن التمويل من مختلف الفاعلين وتدبير الملفات العالقة على ضوء تحقيق العدالة الكاملة للضحايا وذويهم…أكيد أن البرامج السابقة حققت قيمة مضافة ولكن عدم اكتمال المعالجة النهائية تؤثر على مؤشرات تقييم التجربة في رمتها.
للاطلاع على المقال من مصدره (انقر هنا)