مقال: ملفات “خارج الأجل” لأحداث 14 دجنبر 1990تسائل عشرينية العدالة الانتقالية بالمغرب
ملفات “خارج الأجل” لأحداث 14 دجنبر 1990تسائل عشرينية العدالة الانتقالية بالمغرب
د. المصطفى بوجعبوط
باحث في شؤون العدالة الانتقالية
لا أحد اليوم سيقول أن تجربة العدالة الانتقالية لم تلعب دورها في التغير الفكري للمجتمع الذي أصبح متشبع بقيم حقوق الإنسان والحريات العام والتغير الذي واكب مخرجات هيأة الإنصاف والمصالحة من الترسانة القانونية والمؤسساتية. كلها قيم تهدف إلى الرقي بالمجتمعات التي تحاول القطع مع إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تجرد الإنسان من انسانيته في ظل المتغيرات الدولية وما واكبها من ايديولوجيات. هذه القيم مبنية على تعاقد جديد سموه احترام القانون والمؤسسات والنهوض بحركة حقوقية قوامها التنمية المستدامة والحرية الإنسانية.
فمرور 20 سنة تقريبا عن تجربة هيأة الانصاف والمصالحة تطرح تساؤلات مهمة في سياقات مختلفة واصلاحات متتالية وفي نفس الوقت تسائل إرث الانتهاكات، فعشرينية العدالة الانتقالية بالمغرب ورثت ملفات عالقة تحتاج إلى البحث والتحري لأجل المعالجة النهائية والبحث على مداخل فضلى للمعالجة بعيدا عن تبخيس عمل الهيأة ولجنة المتابعة.
ولكن منظور الضحية الذي هو خارج العشرينية يطرح إشكاليات ويؤثر على مسار التجربة ولو على مستوى الترضية أو طرق المعالجة، ولكن الملفات العالقة أصبحت تؤثر بشكل حقيقي على منجز العدالة الانتقالية وخير دليل ما تضمنته التقارير الموازية للمجتمع المدني المرفوعة للجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري سواء سنتي 2022 أو 2024 وما تطرحه الساحة الحقوقية من ملفات مرتبطة باستكمال تنفيذ توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة أو التعويضات الفردية (ملفات خارج الآجل) وحفظ الذاكرة والتقاعد التكميلي وكشف الحقيقة والرفاة…الخ.
ولعل أحداث أو إضراب 14 دجنبر 1990 نموذج من الملفات العالقة في تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب على إثر الانتهاكات التي ارتبطت بالإضراب العام الذي دعت له النقابات كل من الاتحاد العام للشغالين والكونفدرالية الديمقراطية للشغل الذي تحول إلى انتفاضة شعبية عارمة بفاس، نتيجة غياب الحوار الاجتماعي والمطالب المستعجلة للمركزيات النقابية، بالرغم من الدعوة التي وجهها الوزير الأول عز الدين العراقي للاجتماع قبيل الإضراب بتاريخ 12 دجنبر 1990 الذي انتهى بدون نتيجة،”بدعوى غياب الإمكانيات المالية وتم تجميد المفاوضات”.
فقد بدأت المركزيتان النقابيتان في توزيع نداء الإضراب على عموم المواطنين، للتعبئة للإضراب والذي ترتب عنه اعتقالات تعسفية وصدور أحكام قضائية قاسية في حق المتظاهرين. فهذه الأحداث مرتبطة بالسياسات التقشفية التي اتبعتها الدولة إثر إملاءات صندوق النقد الدولي. بالرغم من أن الدولة عملت قبل 7 أشهر من تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، غير أنها واجهت الاحتجاجات بالقوات العمومية التي استعمل من خلالها الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين.
فتلك الأحداث عرفتها مجموعة من المدن المغربية كالدرالبيضاء، آسفي، أكادير، مراكش، سوق السبت، عين تاوجطات، القنيطرة، طنجة (بني مكادة)، بني ملال وغيرها. وفيما بعد اقترح الوزير الأول آنذاك، “عز الدين العراقي“لأجل تشكيل لجنة للتقصي من داخل البرلمان. وتم تشكيل اللجنة بتاريخ 11 دجنبر 1991، التي امتدت مدة اشتغالها ما بين 16 يناير إلى 3 دجنبر 1991. بعد طلب التماس تقدمت به رئاسة المجلس آنذاك، السيد “أحمد عصمان“، نيابة عن كافة الأطراف والمنظمات السياسية والنقابية. وقد تمت الموافقة الملكية على تشكيل هذه اللجنة التي ضمت 21 عضوا، منهم 9 أعضاء من المعارضة.
ولقد تم تشكيل لجنة تقصي الحقائق الذي عملت إلى الاستماع لوزير العدل “مصطفى بلعربي العلوي“، ووزير الصحة الطيب بن الشيخ، ووزير الداخلية “ادريس البصري” إضافة إلى عامل فاس السابق. وتوقفت اللجنة عند أسباب الأحداث التي وقعت في كل من فاس وطنجة مرتبطة بالتوتر والقلق نتيجة عوامل دولية وجهوية كأزمة الخليج، وعوامل داخلية ترجع أولا إلى عدم إفضاء الحوار بين أطراف الإنتاج والمسؤولين إلى نتائج ملموسة تساهم في خلق جو من الثقة المتبادلة، وثانيا إلى البلاغات والحملة الإعلامية المكتوبة والمرئية المصاحبة.
وحدد تقرير اللجنة عدد الموتى في 42 ضحية منهم 41 حملوا إلى المستشفى بعد وفاتهم، و 1 من الجرحى توفي بالمستشفى متأثرا بجراحه، على عكس ما تضمنه البلاغ الحكومي الذي أعلن سقوط 5 قتلى، وتصريحات ممثل النيابة العامة بفاس الذي حدد عدد القتلى في 23 قتيلا، وسلمت النيابة العامة بفاس تصاريح بالدفن لــ: 23 ضحية، أما 19 جثة، فقد سلمت مباشرة إلى عائلاتها بمحضر السلطة، وبدون أتباع المسطرة المحددة قانونا (41 مدنيا و1 من قوات حفظ الأمن)، كما استشهد شخص واحد بمدينة طنجة.
أما بالنسبة للجرحى فقد حددت لجنة التقصي العدد في 236 جريحا:153 من قوات الأمن و 83 من المدنيين، (54 ذكرا و13 أنثى و 16 طفلا)، أما عدد الجرحى في مدينة طنجة 124 منهم 103 من قوات حفظ الأمن والباقي من المدنيين.
وحدد التقرير عدد من الأحكام القضائية في كل من فاس وطنجة والرباط والقنيطرة وبني املال، إلى جانب وقوف التقرير على مجموعة من الخسائر المادية.
غير أنه عند تأسيس هيأة الانصاف والمصالحة أولت ضمن اختصاصاتها ملف أحداث فاس 1990 وأقرت بعدد الوفيات الذي تجاوز ما أعلنته الحكومة وتقرير لجنة التقصي، حيث توصلت من خلال تحرياتها إلى 109 متوفى (99 ضحية بمقبرة باب الكيسة، 7 ضحايا بمقبرة بوبكر أبي العربي و 3 ضحايا دفنوا من قبل عائلاتهم)، هذه التحريات أكثر من عدد الطلبات المقدمة للهيأة المحدد في 14 طلب من المتوفين.
وقد سبق لهيأة الإنصاف والمصالحة أن وقفت على مقبرتين محاذيتين للحديقة المعروفة، التي تعرف كذلك بحديقة المسيرة الخضراء، تضم 116 قبرا تجهل هويات المدفونين فيها. وعمدت هذه الهيأة إلى كتابة جملة “وفاة إثر أحداث 14 دجنبر الأليمة” على قبورهم دون ذكر أسمائهم. ويتعلق الأمر بمقبرة باب الكيزة ومقبرة العربي العلوي قرب باب الماكينة، والموجودة قبالة الحديقة.
وبالرغم من عمل هيأة الانصاف والمصالحة إلا وأن ملف أحداث فاس لازال مفتوحا ومطروحا للنقاش سواء تعلق الأمر بمجهولي الرفات أو الملفات العالقة (خارج الأجل) التي لم يتم تقديمها للهيأة داخل الأجل المحدد لهيأة الإنصاف والمصالحة، وأن مجموعة من ضحايا 1990 لا زالت تعاني من أمراض نفسية وإعاقات بدنية، وضياع فرصة العمر، علما أن الكثير منهم غادر صفوف الدراسة بعد اصدار أحكام قضائية متفاوتة أدت بهم إلى السجن لمدد مختلفة. فيما أصبحوا عاطلين عن العمل بعد نهاية العقوبة. وقد تضمنت تلك الأحكام القضائية بغرفة الجنايات بفاس من خلال جنايات مختلفة في ملف جنائي عدد 84/91 قرار عدد 269/91 لـ 48 شخصا منهم من استفاد من تعويضات هيأة الإنصاف والمصالحة ومنهم من ينتظر تسوية وضعيته أمام المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
وبذلك فإن ملف ضحايا أحداث 14 دجنبر 1990 أصبح يطرح نفسه من خلال النقط التالية وهي:
- ملفات “خارج الآجل”: وجود بعض ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لأحداث 14 دجنبر 1990 ملفاتهم لما يسمى “خارج الأجل” لضحايا ارتبط انتهاكهم باختصاصات هيأة الإنصاف والمصالحة وزمنيتها. حتى بعض الملفات التي تم دفعها داخل الأجل رفضت لعدم استكمالها الوثائق المطلوبة بالرغم من مراسلة الضحية لأجل موافاة الهيأة بالوثائق إلا أن بعض من هذه الملفات اعتبرت خارج الأجل.
- التعويضات الفردية والجماعية: بعض ضحايا أحداث فاس لم يتم تعويضهم بعد، بالرغم من أن الأحداث توجد ضمن اختصاصات الهيأة، وبالتالي يجب معاملة الضحايا بتعاطف واحترام لكرامتهم وتقديم التعويضات للضحايا وفق نهج العدالة الانتقالية وبناء على حجم الانتهاكات (ضياع فرص الحياة، الفقر، الهشاشة…)؛ ووضع برامج التأهيل الجماعي للمنطقة التي تعرضت إلى انتهاك واسع وبرامج جبر الضرر الجماعي. وقد يتجاوز ذلك الدعم المالي إلى إعادة التأهيل والترضية ورد الحقوق في شموليتها وتقديم ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
- الدعم النفسي والاجتماعي: الوقوف على الضحايا الذين تعرضوا إلى الرصاص الحي ولازالوا على قيد الحياة وضحايا ذوي الإعاقة نتيجة الرصاص لأجل تأهيلهم الفعلي المرتبط بالدعم النفسي لهم ولأسرهم وأبنائهم على الخصوص…نتيجة الصدمات النفسية الناتجة لعدم التأهيل أولا، والناتجة لطول مدة عدم تعويضهم جراء ضياع “فرصة الحياة” وذلك ما دعى له المقرر الخاص في أحد توصياته في الفقرة (81) –(A/77/162)2022)، “..بوضع أهداف أكثر طموحا للدعم النفسي والاجتماعي تتجاوز العمل الفردي المتعلق بالصدمات النفسية وتشمل تقييمات وإجراءات بشأن الأسباب الهيكلية للعنف والاستبعاد.”
- حفظ الذاكرة: حفظ ذاكرة المكان بمدينة فاس والمدن التي عرفت نفس الأحداث (طنجة، بني ملال، الرباط، ..) من خلال بناء نصب تذكارية رمزية وسط المدنية يحمل أسماء الضحايا وإعادة تسمية شوارع المدنية بأسماء الضحايا وبناء متحف خاص يؤرخ للمرحلة التاريخية للأحداث لأجل عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المستقبل.
- استخراج الرفاة: البحث عن ضحايا المفقودين باستخراج رفاتهم واخضاعهم إلى التحليل الجيني ADN وتسليمهم لذويهم لممارسة الطقوس الدينية وفق التعاليم الإسلامية.
وخلاصة القول، يمكن جعل ضحايا 14 دجنبر 1990 في قلب عمليات العدالة الانتقالية التي ترتكز عليهم باعتبارهم ضحايا الانتهاكات والعنف ولعدم استكمال معالجة أو جبر الضرر لجزء منهم، وبذلك فلا يمكن الحديث عن المعالجة النهائية ما دام هناك ضحايا لازالوا يطالبون بتسوية وضعيتهم وأن ينخرطوا في ركب التنمية المستدامة المرتبطة بآليات العدالة الانتقالية.
وأن تركز الدولة على أن يشمل التعويض ضحايا اختصاصات هيأة الانصاف والمصالحة والذين لم يتم تعويضهم بعد، والتعويض عن الضرر لعدم معالجة ملفاتهم أمام اللجنة المعنية بتتبع ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، دون نهج سياسة الاستبعاد أو الوعود المستمرة في المستقبل إلى أن يموتوا أو يشيخوا،..وبذلك يعتبر انتهاك ثاني لعدم إدراك المعالجة وحجم الضرر الزماني. وقد تضمن المقرر الخاص (فقرة 40) ، أن جماعات الضحايا أثارت إلى أن حكومات معنية تؤخر استراتيجيا إنشاء آليات للعدالة الانتقالية ترتكز على الضحايا من أجل إرهاق الضحايا أو مماطلتهم إلى أن يكفوا.
لقراءة المقال من مصدره (انقر هنا).
بوجعبوط: يثير في الندوة الحقوقية نواقص العدالة الانتقالية في معالجة ملف إنتفاضة 14 دجنبر 1990
تصريح مرتبط بالموضوع (انقر هنا)