مقال للدكتور بوجعبوط المصطفى حول: عشرينية الحقيقة والإنصاف والمصالحة
عشرينية الحقيقة والإنصاف والمصالحة: ذكرى محطة ومسار
The Decade of Truth, Equity and Reconciliation: A Memory of a Station and a Path
La décennie de la vérité, de l’équité et de la réconciliation : mémoire d’une station et d’un chemin
الدكتور المصطفى بوجعبوط
مدير المركز المغربي للعدالة الانتقالية ودراسة التقارير الدولية
احتفى المجلس الوطني لحقوق الإنسان بذكرى إحداث تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب 2004-2024 يوم الجمعة 26 يناير 2024 بمقر المجلس تحت عنوان: “عشرينية الحقيقة والإنصاف والمصالحة: ذكرى محطة ومسار“، حيث انطلقت فعاليات هذا الاحتفال المميز بعرض صور وأشرطة فيديوهات خاصة بتجربة هيأة الإنصاف والمصالحة ولجنة تتبع تنفيذ توصيات الهيأة، ايمانا أن التجربة لعبت دورا رياديا ذات أهمية كبيرة في سياقات مختلفة، ارتبطت في بعدها القانوني والسياسي بمتغيرات فكرية داخل المجتمع المغربي المعاصر.
وبذلك تعتبر نموذج من التجارب الدولية للعدالة الانتقالية التي سلطت عليها الأنظار الدولية لطريقة معالجتها لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب ما بين 1956-1999 والتي تحمل دلالات فكرية حقوقية سياسية ثقافية تحتاج إلى مأسسة الانجازات وجعلها مرجعا قابلا للتصدير وللبحث في أحداثها والتحديات التي عرفتها ولازالت تعرفها.
فاختيار المجلس الوطني لحقوق الإنسان خلال سنة 2024 الذي سيمتد من خلاله برنامجا غنيا بثقافة العدالة الانتقالية، يشكل مدخلا أساسيا للوقوف على الانجازات وتقييم التجربة في بعدها الحقوقي على مستوى الأجرأة والتنفيذ العملي للبرامج التي وضعها ما بعد نهاية هيأة الإنصاف والمصالحة، وبالتالي سيكون المجلس أمام امتحان جديد في استعراض مثلا انتاجات الفعاليات الحقوقية في هذا المجال وانتاجات الجامعات المغربية في مجال العدالة الانتقالية ووضع مشاريع وعروض ذات صلة لتقوية الذاكرة الجماعية للمجتمع المغربي من مداخل متعددة من ورشات فنية وعروض سينمائية وكتابات ذات صلة…الخ.
أمام هذه المبادرة، فإن المجلس الوطني لحقوق الإنسان مطالب من خلاله استعراض حجم الاصلاحات القانونية والمؤسساتية التي انخرط فيها المغرب بالتزامه بنتائج العدالة الانتقالية من خلال توصياتها التي أدمج معظمها ضمن الوثيقة الدستورية لسنة 2011 لتليها قوانين عادية ذات صلة ومرجعية في احترام الحقوق والحريات بالمغرب والانخراط في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان والتفاعل مع التوصيات الصادرة من لدن الهيئات الأممية واستقبال الإجراءات الخاصة من مقررين وخبراء مستقلين وفرق عمل تعنى بمختلف قضايا حقوق الإنسان إلى جانب تقديم مجموعة من التقارير الأولية والنهائية والدورية ونقاشها على مستوى هيئات المعاهدات الدولية.
غير أن عمل وانخراط المجلس الوطني لحقوق الإنسان في احتفائه خلال سنة 2024 يثير تساؤلات وملاحظات مشروعة حول الملفات العالقة في التجربة المغربية للعدالة الانتقالية وذلك وفق مايلي:
الملاحظة الأول: تتعلق بشعار المجلس “عشرينية الحقيقة والإنصاف والمصالحة: ذكرى محطة ومسار“، ايمانا أن الشعار يعكس مجرى الاحتفاء، هل يريد المجلس من خلاله تقييم تجربته بعد نهاية عمل هيأة الانصاف والمصالحة إلى سنة 2024 في ملف العدالة الانتقالية خلال 20 سنة، وهل كشف المجلس الحقيقة كاملة من خلال الملفات العالقة التي ورثها من هيأة الإنصاف والمصالحة، أو ضمن الاحتفاء سيفتح المجلس ملف الحقيقة أم سيتم طي ملف العدالة الانتقالية عند نهاية الاحتفاء بالعدالة الانتقالية خلال سنة 2024.
الملاحظة الثانية: تتعلق بكشف الحقيقة في ملفات التي ورثها المجلس عن الهيأة سواء العالقة في نظر الهيأة أو العالقة في نظر الحركات الحقوقية، ومن هنا يبقى السؤال حول: ماهو معيار كشف الحقيقة ؟. حقيقة ماذا؟ حقيقة الانتهاكات أم حقيقة الاختفاء القسري؟ أو معرفة مجرى الاختفاء القسري؟ أو كشف حقيقة الانتهاك مرتبطة بكشف مصير الضحية إلى التحديد والتأكد النهائي لجينات الضحية وفق المادة 24 من الاتفاقية المعنية بالاختفاء القسري.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بإشكالية رفات الضحايا التي لازالت التجربة المغربية فتية في هذا المجال سواء تعلق الأمر بضحايا 1981 بالدارالبيضاء أو ضحايا 1990 بفاس أو ضحايا تازمامارت…..إلخ. فكشف رفات الضحايا يستدعي الخبرة الجينية وفق القواعد العلمية للاستخراج الرفاة وما تم التوصل إليه تبقى عبارة عن “رفاة افتراضية” ولم تخضع إلا لتحليلات جينية سطحية غير معمقة ودقيقة. وبالتالي يجب توسيع النقاش حول ضرورة مأسسة بنوك المعلومات لعلم الوراثة المغربية.
الملاحظة الرابعة: تتجلى من خلال “ملفات خارج الأجل” لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مابين 1956-1999 ومنها ضحايا الدارالبيضاء الكبرى 20 يونيو 1981 وضحايا فاس 1990 وضحايا 1984….إلخ. علما أن البعض منهم قدم ملفه للهيأة وطلب منه استكمال الوثائق ووجد نفسه عند نهاية عمل الهيأة خارج الأجل…. غير أن حجية الأجل القانوني يشكل خطأ الهيأة حيث ربطت أجل استقبال ملفات الضحايا بشهر واحد ضمن نظامها الأساسي، من يوم 12 يناير 2004 إلى يوم الجمعة فبراير 2004 ولم يصدر بالجريدة الرسمية إلا يوم 10 أبريل 2004 بظهير شريف رقم 1.04.42. وبالتالي فالأجل المحدد من لدن الهيأة لم يطلع عليه أي أحد إلا بعد نشره في الجريدة الرسمية ليصبح ساري المفعول. لذا أجل الهيأة ولد ميتا.
الملاحظة الأخيرة: تتجلى في الملفات العالقة في شأن التقاعد التكميلي لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الذي كانوا موظفين عمومين، (ضحايا تازمامارت) إلى جانب جبر باقي الأضرار لضحايا “خارج الأجل” وبعض مجهولي المصير وعدم استمرار برامج جبر الضرر الجماعي التي توقفت منذ مدة في 149 مشروع فقط…وبالتالي فهذا الاحتفاء يستدعي تقيم تلك المشاريع والاطلاع على اللوائح الإسمية للضحايا بعد تحينها عن اللوائح 2010 ومعرفة الضحايا المستفيدين من الادماج الاجتماعي والتأهيل الصحي والنفسي والتسوية الادارية والمالية والتعويضات الفردية….إلى جانب ضعف برامج حفظ الذاكرة التي تتعلق بتحويل المعتقلات غير النظامية إلى مراكز سوسيوثقافية (تازمامارت، اكدز، قلعة مكونة، درب مولاي الشريف، …) وإتاحة أرشيف الهيأتين للعموم وللباحثين على الخصوص.
وعليه، فإن مبادرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالاحتفاء بعشرينية العدالة الانتقالية بالمغرب خلال سنة 2024 يشكل مدخلا صريحا للتحول والانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى اتسمت بمتغيرات قانونية ومؤسساتية ترسخ قيم التسامح والتضامن والمصالحة والوحدة الوطنية من خلال بلورة القيم الجديدة للمجتمع المغربي من حقوق وحريات وفق مقاربة العدالة الانتقالية المغربية، غير أن المجلس أمام تمرين ديمقراطي في نهج سياسات جديدة لمعالجة ما تبقى من الملفات العالقة لاستكمال منجز العدالة الانتقالية وحتى نكون أمام حقيقة وإنصاف مكتمل لجميع ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عانت ولازالت تعاني ومستمرة في المعاناة.
للإطلاع على المقال من مصدره انظر الروابط التالي:
وجهة نظر قانونية في تجربة هيأة الإنصاف والمصالحة بالمغرب بمناسبة الذكرى الـ20 لتأسيسها
عشرينية الحقيقة بلا حقيقة: ملفات عالقة في تجربة العدالة الإنتقالية بالمغرب.