الفِعْـلُ الاحتِجَاجِيُّ فِي الوَطَـنِ العَـرَبِيِّ وَصِنَاعَةُ الوَهْمِ: تَقْوِيَةُ السُّلطويَّة وَتَعَثُّرُ آليَّاتِ الدِّيمُوقـراطيَّة

د.المصطفى بوجعبوط، مدير المركز المغربي للعدالة الانتقالية ودراسة التقارير الدولية

-الفِعْـلُ الاحتِجَاجِيُّ فِي الوَطَـنِ العَـرَبِيِّ وَصِنَاعَةُ الوَهْمِ: تَقْوِيَةُ السُّلطويَّة وَتَعَثُّرُ آليَّاتِ الدِّيمُوقـراطيَّة-

The act of Protest in the Arab World and the Illusion Industry: Strengthening Authoritarianism and Stumbling Mechanisms of Democracy

مُـقـدِّمـة

تَعِيشُ العَدِيدُ مِنْ دولُ الوَطَنِ العَـرَبِيِّ مَخَاضاً عَسِيراً بَيْنَ صِنَاعَةِ الكَرَاسِي السِّيَادِيَّةِ وَ”ضَعْفَ” المَشَارِيعِ المُجْتَمَعِيَّةِ وِفْقَ امْلاَءَاتٍ خَارِجِيَّةٍ، فالدُّوَلُ العَرَبِيَّةُ اليَوْمَ تَعْـرِفُ تَشَرْذُماً قَـوِيّاً عَلَى مُسْتَوَى البِنَاءِ وَصِنَاعَةِ مُجْتَمَعٍ ديمُوقراطيٍّ مَحَلِّيٍّ، غَيْرَ أنَّ هَذَا الانْقِسَامَ أَصْبَحَ ظَاهِـرِيّاً عَلَى مُسْتَوَى المُفَاوَضَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالخَارِجِيَّةِ، الأَمْرُ الذِي تَرَتَّبَ عَنْهُ مَوَاقِفَ سِيَاسِيَّةً مُتبايِّنةً وَمَبْتُورَةً حَوْلَ انْعِـدَامِ الإِرَادَةِ فِي صِنَاعَةِ مَنْتُوجٍ ديمُقراطيٍّ مَحَلِّيٍّ، فَلاَ أَنْظِمَةَ سِيَاسَيَّة مَشْرُوعَة بِشَرْعِـيَّةٍ تَعْـرِفُ اسْتِقْرَاراً، وَلاَ مُجْتَمَعاً يَعِيشُ عِيشَةً وِفْقَ أجندَةٍ قوامُهَا الاسْتِقْرَارُ النَّفْسِيُّ وَالاجْتِمَاعِيُّ، ممَّا أَصْبَحَ يُؤَكِّدُ وُجُـودَ إِشْكَالِيَّاتٍ تُعَـانِي مِنْهَا هَذِهِ الدُّوَلُ. وَفِي ظِـلِّ هَـذِهِ المُتَغَيِّرَاتِ نَتَسَاءَلُ فِي هَـذِهِ المَقَـالَةِ عَـنِ الفِعْـلِ الاحْتِجَاجِيِّ فِي الوَطَنِ العَـرَبِيِّ إِلَى أَيْنَ؟.

أوَّلاً: الاحْتِجَـاجُ حَقٌّ، وَلَكِنْ كَيْفَ؟:

الفِعْـلُ الاحْتِجَاجِيُّ حَقٌّ مِنَ الحُقُوقِ الكَوْنِيَّةِ، وآليَّة ديمُوقراطيَّةٌ للتَّعْبِيرِ عَن نَقْصٍ أو ضَرَرٍ اجتماعِيٍّ أو اقتصاديٍّ أو سياسيٍّ أو ثقافيٍّ إثر التَّهْمِيشِ والتَّفقير أو التَّقْصِيرِ فِي الحُقُوقِ أو غير ذلك، والهدفُ منهُ هُو إتيانُ فِعْلٍ إيجابيٍّ للحُكُومَاتِ فِي المَيْدَانِ أو مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الفِعْـلِ الاجْتِمَاعِيِّ. هَذَا عَلَى مُسْتَوَى القَاعِدَةِ العَامَّةِ لِمَا تَعْـرِفُهُ البَشَرِيَّةُ وَالإِنْسَانِيَّةُ فِي الكَوْنِ.

غَيْرَ أنَّ الطَّرَفَ الثَّانِي الذِي يُحْتَجُّ عَلَيْهِ، الذِي يَتَمَثَّلُ فِي الدَّوْلَةِ، رَاعِيَةِ حُقُوقِ المُوَاطِنِينَ، وِفْقاً لِنَظَرِيَّةِ “العقد الاجتماعيِّ”، بَيْنَ الفَرْدِ وَالدَّوْلَةِ. وَلَكِنَّ هَذَا الأخير فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ يَشْتَغِلُ بِميكانيزماتٍ وآليَّاتٍ أكثر تطوُّراً في بناء وهندسة سيكُولُوجيَّة الجَمَاهِيرِ عَنْ طَرِيقِ التَّحَكُّمِ وَالهَيْمَنَةِ الأُحَادِيَّةِ عَبْرَ آلِيَّاتِ الدِّيمُوقراطيَّةِ، “احتجَّ واطْلُبْ، وَتَعَالَ إِلَى طَاوِلَةِ المُفَاوَضَاتِ”، فَنُّ التفاوُض للدَّولة يُشَكِّلُ قُوَّةً أَمَامَ ضعْفِ مُكوِّنَاتِ الحركات المدنيَّة التِي تَكُونُ فِي الغَالِبِ (والبعض منها) غَيْرُ مُؤهَّلٍ لتلك الاستراتيجيَّات، ويبقى بين الاختيارات العقلانيَّة لتحقيق الذات أمام جِسْمِ الدًّوَلِ المُتفاوضة مَعَهُ، وشِرَاءِ الذِّمَمِ عَبْرَ آليَّاتِ النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ (الحَوَافِز، العوائد، الأيديولوجيَّة…)، فَيُصْبِحُ المُتَفَاوَضُ مَعَهُ جُزْءٌ صَغِيرٌ لِلهَيْمَنَةِ مَعَ تَحْقِيقٍ طَفِيفٍ لِلمَطَالِب الاجْتِمَاعِيَّةِ عَبْرَ مساطر مُعقَّدةٍ.

فالدُّولُ فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ تَعْمَـلُ جَاهِدَةً فِي تفكيك الفِعْلِ أو السُّلُوكِ الاحْتِجَاجِيِّ عبر صناعة جبهَاتٍ مُضَادَّةٍ للفِعْلِ والسُّلُوكِ الاحتجاجيِّ عَبْرَ مَأسَسَةِ الضِدِّ وَالمُضَادِّ، وذلك عبر تسويق آليَّة “الشيطنة والتبليد الاجتماعيِّ”، بعيداً عن المصالح الاجتماعيَّة وهيمنة النُّخَبِ التِي تُمَثِّلُ الأقلِّيَّة فِي المُجتمع في ظلِّ انْعِدَامِ تأثير الطبقة المُتوسِّطة، ما صُنِعَ في مُختبرات السُّوسيُولوجية الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، وما يقعُ في الوطن العربي ليس بالنهضة الفكريَّة أو الصَّحْوَةِ نَحْوَ الأَمَامِ، أمام جَبْهَةٍ مُضَادَّةٍ للدَّوْلةِ بآليَّاتها البيروقراطيَّة الصَّانِعَةِ لِمَشْرُوعِ مُجابهة وتثبيط “المَطَالِبِ الاجْتِمَاعِيَّةِ”.

ثانياً: ‘’الثوراتُ العربيَّةُ ‘’: صناعةُ السُّلطويَّة من جديدٍ.

الثوراتُ، الاحتجاجاتُ في الوطن العربيِّ وجهان لعُملةٍ وَاحِدَةٍ تتحكَّمُ فيها مُتغيِّراتٌ مُنتظمةٌ وِفْقَ مَشْرُوعٍ غَيْرِ مَرْئِيٍّ تَصْطَادُهُ الأنظمة العسكريَّةُ فِي ظِلِّ ضعف وتشرذُم المُجتمع المدنيِّ، فالتمرُّداتُ على الوَضْعِ القَائِمِ فِي الوطن العربيِّ فِي ظِلِّ تَرَدِّي الأَوْضَاعِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الاحْتِجَاجَاتِ حَوْلَ حُقُوقِ الجيل الأوَّل والثاني والثالث، التي تُشَكِّلُ نُقْطَةَ التقاءٍ بَيْنَ مُختلف الأنظمة السِّياسيَّة العربيَّة؛ فجُلُّ الدُّول في الوطن العربيِّ تَعْرِفُ تشرْذُمَاتٍ اجتماعيَّةٍ، رُغم إقرارها الصَّدَارَةِ فِي احترام الحُقُوق الكونيَّة على مُستوى الدَّوليِّ، عن طريق الاتِّفاقيَّات والمُعاهدات الدوَّليَّة.. لماذا إذاً الثوراتُ العربيَّةُ؟، وليس الحُرُوبُ الأهليَّةُ؟، وهذه الأخيرةُ (انفجرت) بعد الثورات، واستياء المذاهب الفكريَّةِ والعِرْقِيَّةِ واللغويَّةِ بِالأَمَلِ فِي المُستقبل، الذي سيُشكِّلُ نُقطة تَحَوُّلٍ على المُستوى الجيُوسياسيِّ في الوطن العـربيِّ، منْ خلال الحُرُوب المذهبيَّة والطائفيَّة، فـ”الثوراتُ العربيَّةُ” التِي وَقَعَتْ مَا بَعْدَ سَنَةِ 2011 تُشكِّلُ مُنْعَطَفاً مُهِمّاً عَلَى مُستوى الوَعْيِّ الاجْتِمَاعِيِّ. مَـاذَا بَعْـدُ؟، هَـلْ هِيَ وَهْـمٌ أمْ صِنَاعَةٌ؟.

فـ”الثَّوْرَاتُ العربيَّةُ” التِي وَقَعَت تَفْتَقِرُ إِلَى مَشْرُوعٍ سِيَاسِيٍّ جَذْرِيٍّ فِي المنطقة أَمَامَ هَيْمَنَةِ النُّخَبِ العسكريَّةِ كَمَا هُو الحالُ فِي كُلٍّ مِنْ مصر، ليبيا، اليمن،…، وَلَكِنَّ مَا يُثِيرُ  الانْتِبَاهَ هُوَ أنَّهُ حَتَّى الدُّوَل التِي عَرَفَتْ سُقُوطَ أنظمتها السِّياسيَّةِ عنْ طريق الثوراتِ (مصر، تونس، ليبيا، اليمن)، صنعت أنظمةً ديمُوقراطيَّةً أكثر سُلطويَّةً، بإيديُولوجيَّة “الشمس لا تُغَطَّى بالغـربال)، وهذا النَّمَطُ يَتَجَلَّى فِي تَحَكُّم النُّخَبِ العَسْكَرِيَّةِ فِي مُجْرَيَاتِ القَرَارَاتِ السِّياسيَّة كَمَا حَدَثَ بَعْدَ سُقُوطِ الأنظمة العسكريَّة في أمريكا اللاتينيَّة، غَيْرَ أنَّ ما يُثِيرُ الاهتمامَ في تلك التَّجَارِبِ هُو قُوَّة مُكوِّنات “المُجتمع المدنيِّ”، وعَوْدَةُ القُوَّات العسكريَّة إِلَى ثكناتها، فِعْلاً، نَحْنُ أَمَامَ مَأْزِقٍ كَبِيرٍ فِي غِيَابِ مَشْرُوعٍ اجْتِمَاعِيٍّ جَذْرِيٍّ، وليس تسويقيٍّ أَمَامَ المُنظَّماتِ الدَّوليَّةِ التِي تُقَدِّمُ المُساعدات الخارجيَّة، فهل الوطنُ العربيُّ في حاجةٍ إلى الغرب؟، ولماذا لمْ يستطع العَرَبُ تَجَاوُزَ عَتَبَةِ مَا صَنَعَهُ الاسْتِعْمَارُ؟، لَقَدْ خَرَجَ الاسْتِعْمَارُ مِنَ النَّافِـذَةِ، وَعَـادَ إِلَيْنَا مِنَ البَابِ.

فـ”الثَّوراتُ العَرَبِيَّةُ”، أَنْتَجَتِ السُّلطَوِيَّة القَانُونيَّة وَالمُؤسَّسَاتِيَّة، عَبْرَ مَشْرُوعِ الحُرِّيَّاتِ العَامَّةِ وَالدِّيمُوقراطيَّةِ الليبراليَّةِ التِي لَمْ تَعُدْ صَالِحَةً لِمَشْرُوعٍ مُجْتَمَعِيٍّ، وَذَلِكَ مَا يَعْكِسُهُ الفِعْلُ الاحْتِجَاجِيُّ فِي الوَطَنِ العَـرَبِيِّ، فَهَذِهِ الدِّيمُوقراطيَّةُ العربيَّةُ بَاطِنُهَا “وَهْمٌ”، أَكِيدٌ أنَّ الوطنَ العَرَبِيَّ يَزْخَرُ بمجمُوعةٍ من المُؤهِّلاَتِ الجُغْرَافِيَّةِ والمَوَارِدِ الطَّبيعيَّةِ…التِي تُمكِّنُهُ أنْ يكُون في الصَّدارة على مُستوى مُختلف المُؤشِّرات الدَّوليَّةِ، ولكنَّ انعدام إرادة الأنظمة الحاكمة، يُفْرِغُ ذَلِكَ مِن مُحتواهُ وأهدافه الاجتماعيَّة.. كيف يُمكنُ إذاً أن نفهمَ “الفِعْلَ الاحتجاجيَّ” فِي الوطن العـربيِّ الذي يتمُّ تَقْزِيمُهُ وتبْلِيدُهُ، وصناعتُهُ عَبْرَ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الآلِيَّاتِ المَعْرُوفَةِ فِي التَّسْويقِ السِّياسيِّ فِي خَلْقِ جَبْهَاتٍ مُضَادَّةٍ يُمْكِنُ أنْ تُكَلِّفَ مِيزَانيَّة الدَّولةِ أكثر من حاجات الفئات المُحتجَّة، إنَّهَا مُعـادلةٌ جِدُّ صَعْبَـةٍ.

وَعَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتِ “الثَّوْرَاتُ العَرَبِيَّةُ” وَالاحْتِجَاجَاتُ انتجت فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ، دَسَاتيرَ جَدِيدَةً أكثر أهَمِّيَّة مُنْبَثِقَةً مِنَ المَوَاثِيقِ الدَّوْلِيَّةِ وَمُؤسَّسَاتٍ أكثر عقلانيَّةً وقوانين ولوائح وقرارات أكثر مثاليَّة..، وما يتوقعُهُ العَقْلُ البَشَرِيُّ (فِي هَذَا المَجَالِ)، فَلِمَاذَا لَمْ تَتَغَيَّرِ البُنْيَةُ الاجْتِمَاعِيَّةُ، وَلَمْ يَتِم التَّخَلِّي عَنْ سُلُوكيَّاتِ البيرُوقراطيَّة، التِي وَرِثَتْهَا الأنظمة السِّياسيَّة فِي الوَطَـنِ العَـرَبِيِّ؟.

 ثالثاً: الوَهـمُ الاقتصاديُّ، تنميةٌ معطُوبةٌ

فَالحَرَكَاتُ الاجْتِمَاعِيَّةُ التِي تُنْتِجُ الفِعْـلَ الاحْتِجَاجِيَّ، عَبْرَ التَّارِيخِ البشريِّ تكُونُ نَتِيجَةَ تَرَدِّي الوَضْعِيَّةِ الاقْتِصَادِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَمُعْظَمُ الأَنْظِمَةِ السِّيَاسِيَّةِ تَعَرَّضَتْ إِلَى الاستعمار التُّرَابِيِّ والفِكْرِيِّ طِيلَةَ عُقُودٍ مِنَ الزَّمَنِ، مِمَّا تَسَبَّبَ فِي اسْتِنْزَافِ الثَّرَوَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ وَالمَوَادِّ الأوَّليَّةِ…وَلكنَّ هَذَا لاَ يَعْنِي أنْ تتعاقد الدَّوْلَةُ باطنيّاً مع تلك الدُّول للاستمرار في النَّهْبِ عَبْرَ المُنظَّمات والشَّركَاتِ المُتعدِّدة الجنسيَّات، فالاستعمارُ لازال يُراودُ مُعظم الدُّول في الوطـن العـربيِّ.

فالتنمية الاقتصادية لدُول ما بعد الاستعمار ما تزالُ تُراوحُ مَكَانَهَا، بالرغم منْ تطاوُل البُنيان وتحقيق تنميةٍ في بعض المجالات، غير أنها  ليست بالتنمية التي تواكب مطالب المُجتمع، فعلاً، هُناك تنميةٌ بلا نُمُوٍّ في مُؤشِّراتٍ اقتصاديَّةٍ، إذا تمَّ مُقارنةُ الوطن العربيِّ مع بعض الدُّول في أمريكا اللاتينيَّة ودُول جنُوب شرق آسيا، التي عُرفت بالانتهاكات الجسيمة لحُقُوق الانسان والجرائم الاقتصادية والفساد الإداري وغيرها، والتي استطاعت الالتحاق بركب الدول السائرة في طريق النمو والتنمية بفعل قطيعتها مع الماضي عبر إنشاء لجان الحقيقة والمُصالحة في ظـلِّ “العدالة الانتقاليَّة” لتحقيق الإنصاف والعـدل والحُرِّيَّة…

فـ”تعثر التعبير” عـن احتياجات المُواطنين أمام ارتفاع الفِعْلِ الاحتجاجيِّ يُشكِّلُ مخاطر مُستقبليَّة أمام تطوُّر المُقاربة الأمنيَّة، ممَّا يستوجبُ الاهتمام بالتنمية الاقتصاديَّة على المُقاربة الأمنيَّة، وإيلاء الأهمِّيَّة للحُكْمِ المَدَنِيِّ عِوَضاً عن الحُكم العسكريِّ (المُباشر وغير المُباشر).. لماذا استطاعت “الثورة المصريَّة” مثلاً إعـادة صناعة النُّخَبِ العسكريَّة؟، هل هذا يعني أنَّ النُّخب المدنيَّة تنعـدمُ في هذه الدولة؟، هل السُّـؤال نفسُهُ يُطرحُ على مجمُوعةٍ من الدُّول في الوطن العربيِّ؟، لماذا تُصبحُ الأنظمة السِّياسيَّة مُواليةً وحاميةً للقُوَّات العسكريَّة الحاكمة بطريقةٍ غير مُباشرةٍ (كالجزائر وسُـوريا واليمن والعـراق….)، هل من أجل حمايتها من لـدُن المدنيين؟.

رابعـاً: صناعةُ الحُكم وهندسة السُّلطويَّة.

حُكمُ الحاكم أو سُلطة الحاكم تُصنعُ في المُختبرات العلميَّة لهندسة الجُمهُـور وفق إرادة الحاكم؛ لأَجْلِ إِتْيَانِ سُلُوكٍ إِيجَابِيٍّ لِلحَاكِمِ وَمُؤَسَّسَاتِهِ، فَالصِّنَاعَةُ التَّشْرِيعِيَّة مَهْمَا بَلَغَتْ دَرَجَةُ العَقْلاَنِيَّة البشريَّة في الوطن العـربيِّ، فإنها تبقى فارغة إن لم يتم إجراؤها على مُستوى الواقع، وأكيدٌ أنَّ القاعدة القانُونيَّة هي أساسُ التعاقُد بين الفرد والدَّولة قصد تحقيق الارادة المُجتمعيَّة منْ خلال الاستقرار والسِّلم والأمن بتجلِّياتِهِ، ولكنْ تستطيعُ الدَّولةُ صناعة القاعدة لتطويق حُرِّيَّة الفرد منْ طبيعته غير التعاقُديَّة، فالدَّولةُ التي تُعتبرُ شخصاً معنويّاً يُمكنُ أنْ تصنع ما تشـاءُ في ظلِّ المُتغيِّرات الدَّوليَّة والحُرُوب الباردة والأيديُولوجيَّة للدُّول والحرب ضدَّ الإرهـاب…الـخ. فالتَّشريعاتُ القانُونيَّةُ والمُؤسَّساتيَّةُ التِي تُعْتَبَرُ مُؤشِّرَاتٍ خارجيَّةٍ للتَّنْظِيمِ الدَّوْلِيِّ لِتَطْوِيرِ الحُرِّيَّةِ وحُقُوق الإِنْسَانِ فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ، غَيْرَ أنَّ تَطْبِيقَهَا عَمَلِيّاً يَصْطَدِمُ بِوَاقِعٍ مَرِيرٍ وَبيرُوقراطيَّةٍ مُتَجَذِّرةٍ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ نتيجة الهيمنة التَّارِيخِيَّةِ لِمُؤسَّسَاتِ النِّظَامِ السِّياسِيِّ السَّابِقِ، حيثُ نُلاحظُ غِيَابَ مَشْرُوعٍ قَانُونِيٍّ لِلسِّيَاسِيينَ الذِينَ يَصْنَعُونَ الوَهْمَ والفِعْلَ السِّياسِيَّ المُسْتَبَاحَ الغير مُتمركز على مصالح الدَّولة والمُجتمعِ في الاغراءات والأعداء الخارجيين.. فدُولُ الوطن العربيِّ تتمتعُ بآليَّاتٍ الدِّيمُقراطيَّة المُتعارف عليها منْ إجراءاتٍ وتنفيذ الاتفاقيَّات الدَّوليَّة عبر جعلها تسمُو على القوانين الداخلية مثلاً: قوانين انتخابيَّة مُتطوِّرة، قوانين الحُرِّيَّات العامَّة والنوع الاجتماعي والمُشاركة السِّياسيَّة واستقلال القضاء….إلخ، غير أنَّنا نجدُ التزوير يُشكِّلُ الصَّـدارة في كُلِّ الانتخابات الوطنيَّة والمحلِّيَّة، ممَّا يُفرغُ الدِّيمُقراطيَّة من مُحتواهـا.. وغير ذلك من المشاكل العميقة في المُجتمعاتِ المحلِّيَّةِ.

خـامساً: الليبراليَّة: حُرِّيَّة الفقر والتهميش تناقُضاتُ الدِّيمُوقراطيَّة.

فالفلسفة الليبراليَّة تَقْتَضِي تَحْقِيقَ حُرِّيَّة الاخْتِيَارِ للأفراد فِي مُجْتَمَعٍ مَـا، قَصْدَ حُصُولِهِ عَلَى العَدْلِ وَالمُسَاوَاةِ وَالحُرِّيَّةِ فِي جَمِيعِ القَرَارَاتِ فِي حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ مَا يُصطلحُ عَلَيْهِ بِالدِّيمُقراطيَّة، فقد ظهرت ظاهرة “الليبراليَّة” في المذاهب الليبراليَّة بالثورة الأمريكية سنة 1775، والثورة الإنجليزية سنة 1688، وبالثورة الفرنسية سنة 1789.

وقد عبر عنها بوضع إطار تشريعي ديمقراطي كدساتير صك الحقوق والحرية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، غير أن الليبرالية مع مر العقود بدأت تتطور لتشمل مفاهيم جديدة بتطور أيديولوجيتها، كالديموقراطية الليبرالية التي بلغت خلال نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين سيطرتها على مذاهب الأنظمة السياسية لدول العالم، متخذة أشكال متعددة من الأنظمة، كالجمهورية الدستورية (إيرلندا وفرنسا وألمانيا)، والملكية الدستورية (بريطانيا، واليابان)، والأنظمة الرئاسية (البرازيل، وأمريكا)، وشبه الرئاسية (هولندا، وكندا، وأستراليا).

لكُلِّ مذهبٍ (أو أيديُولوجيَّة) نهايةٌ مَهْمَا بلغ من التطوُّر، فإذا كانت الليبرالية منذ مأسستها على مُستوى العالم وقيمها ومبادئها الكُبرى هي السَّائدة، فلماذا لمْ تستطيع إلى حدِّ اليوم ضمان مُجتمعٍ دوليٍّ آمنٍ ومُستقرٍّ منْ حيثُ الوضعيَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، ومُحاربة الفقر والهشاشة والمجاعة، والتوزيع العادل للحماية والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة أمام اتِّساع الهُوَّة بين الأغنياء والفُقراء في العالم؟!. ولذلك، ظَهَـرَ  اتِّجَاهٌ اعْتَبَرَ أنَّ هَذِهِ “الليبراليَّة مُتَوَحِّشَةٌ”، تَقُودُ العَالَمَ إِلَى انْهِيَارِ القِيَمِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَطْوِيرِ النُّظُمِ الاقْتِصَادِيَّةِ لِصَالِحِ الشَّرِكَاتِ المُتَعَدِّدة الجِنْسِيَّاتِ “العـولمة”، وَمُنَاهَضَة المَطَالِبِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَغْلِيبِ كَفَّةِ الأقَلِّيَّةِ عَلَى الأَغْلَبِيَّةِ، وَاغْنَاءِ البَعْضِ (عَلَى حِسَابِ) البَعْضِ الآخَرِ، وَذَلِكَ يَتَنَافَى مَعَ قِيمِ وَأَفْكَارِ “الليبراليَّة الكلاسيكيَّة” التِي ظَهَـرَتْ خِـلاَلَ “عَصْـرِ التَّنْوِيرِ”.

وأمَّا تناقُضاتُ دُول العالم، والهيمنة الاقتصاديَّة فقد نتج عنها احتجاجاتٌ داخليَّةٌ، ساهمت في عدم استقرار الأنظمة السِّياسيَّة في الوطن العربيِّ أمام سياساتٍ مُستباحة للمُجتمع الدولي في نهب ثرواتها، لما بعد الاستعمار بطُرُقِ الوصَايَةِ المُبتكَرَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ المَالِيَّةِ لِلبنك الدَّوْلِيِّ، وبَعْض المُنظمَاتِ (الدَّوليَّةِ) غَيْرِ الحُكُوميَّة والشَّرِكَاتِ المُتعدِّدَةِ الجِنْسِيَّاتِ التِي فَرَضَتْ نُفُوذَهَا بِمَا يُسَمَّى “حُرِّيَّة المُنافسة وحُرِّيَّة السُّوقِ”، ممَّا خَلَقَ تَنَاقُضَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ وَفَوَارِقَ حَتَّى دَاخِلَ نَفْسِ الأنظِمَةِ السِّيَاسِيَّةِ.

سادساً: تكتيكاتٌ لتقزيم الفعـل الاحتجاجيِّ في الوطـن العـربيِّ:

“الفعلُ الاحتجاجيُّ” للمُحتجِّ في الوطن العربيِّ يعتقدُ أنَّهُ تكتُّلٌ فئويٌّ، حسب نوع المطالب للمُحتجِّ، الذي ينساقُ وراء “تنظيمٍ”؛ بقصد الضغط على الحُكُومة للاستجابة للضَّرَرِ، أو التأثير للإصْلاَحِ القَانُونِيِّ والمُؤسَّسَاتِيِّ …إلـخ، وينتهي الفِعْـلُ الاحْتِجَاجِيُّ فِي الوَطَـنِ العَـرَبِيِّ بِمُعَادَلَةٍ لاَ تخْرُجُ عَـنْ ثَلاَثَةِ نقـاطٍ:

أوَّلاً: الاستجابة لمطالب المُحتجِّين بشَكْلٍ ضَعِيفٍ وبيرُوقراطيٍّ، لا يَكَادُ يَنْتَهِي أجَلُهُ حتَّى يَظْهَرَ احْتِجَاجٌ وَ احْتِقَانٌ جَدِيدٌ، فتعْمَلُ الأنظِمَةُ السِّيَاسِيَّةُ بتكتيكات “الاختيارات العَقلانيَّة”، عَنْ طريق تحقيق المَطَالِبِ عَلَى شَكْلِ “وَهْمٍ”، وَحَتَّى إنْ تمَّ ذلكَ سيكُونُ بطيئاً، كالموت البطيء للفعل الاحتجاجيِّ لإفراغِهِ مِنْ مُحتواهُ عن طريق الاستقطابات، ووضع تشريعـاتٍ وِفْقَ أجندة النِّظام السِّياسيِّ، مـع قليلٍ من الفِعْـلِ التَّشَارُكِيِّ.

ثانياً: تكتيكُ اعتقال رُؤوس “تنظيم” الفعل الاحتجاجيِّ، بعد البَحْثِ لهُمْ عن الخلل القانُونيِّ لتجاوُزهم، أو اصطيادهم و اعتقالهم بتُهم القوانين الجنائيَّة، قصد تحويل الفعل الاحتجاجيِّ مِنْ موضُوع “المطالب الاجتماعيَّة” إلى موضُوع مطالب تبسيط مساطر الحُكم القضائيِّ.

ثالثاً: تكتيكُ تفريغ الفعل الاحتجاجيِّ منْ شرعيَّتِهِ و مُحتواه عبر عَرْضِ القُوَّاتِ العُمُوميَّة، واستفزاز الفعل الاحتجاجيِّ السِّلميِّ لأجْلِ المَنْعِ عَنِ التقدُّم في مَسَارِهَا؛ قَصْدَ اتيان فعلٍ سلبيٍّ ليتدخَّـل الأمنُ بِمَفْهُومِ “استثبات النِّظامِ العامِّ” أو “المصلحة العـامَّة”.

وعُمُوماً، فإنَّ الفِعْـلَ الاحْتِجَاجِيَّ فِي الوطن العربيِّ يُوَازِي العَمَلَ الجَادَّ للأنظِمَةِ السِّيَاسِيَّةِ لِتَفْرِيغِـهِ مِن مُحْتَوَاهُ، وَصِنَاعَتُهُ وِفْقَ أَجِنْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ، كيف ما كان نَوْعُ وَشَكْلُ الاحْتِجَاجِ، وَيَبْقَى الفِعْـلُ الاحْتِجَاجِيُّ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ مَا هُوَ إِلاَّ تَسْوِيقٌ لِلحُرِّيَّاتِ العَامَّةِ، غَيْرَ أَنَّ مُحْتَوَاهُ أُفْرِغَ مِنْ خِلاَلِ عَدَمِ الاتْيَانِ بِالفِعْـلِ المَطْلَبِيِّ، وحتَّى ولو كان ذلك فإنَّهُ يَتَّسِمُ بِالتَّنْفِيذِ الضَّعِيفِ، الشَّيْءُ الذِي لاَ يَتَمَاشَى مَعَ المُتَغَيِّرَاتِ الدَّوْلِيَّةِ وَالرُّقِيِّ الإِنْسَانِيِّ وَحُرِّيَّتِهِ الكَوْنِيَّةِ.

  الـخــاتِمَــةُ

وَفِي الخِتَامِ، لَمْ تَعُدْ تُشكِّلْ حَرَكِيَّةُ الحَرَكَاتِ الاحتجاجيَّةِ فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ خَطَراً عَلَى الأَنْظِمَةِ السِّيَاسِيَّةِ، فِي ظِلِّ تَوْظِيفِ التَّكْتِيكَاتِ الجَدِيدَةِ مِنْ خِلاَلِ الاسْتِقْطَابِ وَالتَّحْفِيزِ، وَشِرَاءِ الذِّمَمِ مِنْ خِلاَلِ كَرَاسِي الحُكْمِ، وَتَوْظِيفِ المُقَارَبَةِ الأَمْنِيَّةِ البُوليسيَّةِ لِتَفْرِيغِ الاحْتِجَاجَاتِ مِن مُحْتَوَاهَا النِّضَالِيِّ، وَتَفْرِيخِ احْتِجَاجَاتٍ مُضَادَّةٍ لِلفِعْـلِ الأوَّلِ؛ بِقَصْدِ تَشْتِيتِ وَانْشِطَارِ المَطَالِبِ الاجْتِمَاعِـيَّةِ لِلفِعْـلِ الاحْتِجَـاجِيِّ.

أَمَامَ المَوْتِ البَطِيءِ لِحَرَكِيَّاتِ الحَرَكَةِ المَدَنِيَّةِ فِي الوَطَنِ العَـرَبِيِّ، التِي تُشَكِّلُ حَلَقَةً ضَعِيفَةً فِي غِيَابِ رُؤْيَةٍ استراتيجيَّةٍ لِعَمَلِهَا ولمُسْتَقْبَلِ المُجْتَمَعِ، وَالتِي أُفْرِغَتْ كَذَلِكَ مِن مَرْجِعِيَّتِهَا وَمَبَادِئِهَا فِي ظِلِّ التَّطْوِيقِ القَانُونِيِّ وَالمُؤَسَّسَاتِيِّ مِنْ قِبَلِ الدَّوْلَةِ لَهَا. وَعَلَيْهِ، فإنَّ الدَّوْلَةَ أَصْبَحَتْ أكْثَرَ قُوَّةً مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى أنَّ الدُّوَلَ التِي عُرِفَتْ بِدُوَلِ “الرَّبِيعِّ العَرَبِيِّ” لمْ تُغَيِّرْ مِنْ سُلطويَّتها القانُونيَّةِ والمُؤسَّسَاتِيَّةِ النَّاتِجَةِ عَن بيروقراطيَّةٍ إداريَّةٍ فِي مُختلفِ مَرَافِقِهَا، فَالمَرْجِعِيَّةُ الثقَافِيَّةُ (السَّائِدَةُ) لِلمُجْتَمَعِ التِي تَتَحَكَّمُ فِيهِ إِرْث القبيلة والعَشِيرَةِ لاَزَالَتْ طَاغِيَةً فِي التَّدْبِيرِ اليَوْمِيِّ لِلحَيَاةِ الإِدَارِيَّةِ وَالمُؤَسَّسَاتِيَّةِ.

للاطلاع على المقال من مصدره الأصلي انقر هنا