تقرير عن الندوة العلمية حول: ”دور الحرية الأكاديمية في تجويد البحث العلمي وتكريس استقلالية الجامعة”
”دور الحرية الأكاديمية في تجويد البحث العلمي وتكريس استقلالية الجامعة”
السبت 23 أبريل 2022
نظم المركز المغربي للعدالة الانتقالية ودراسة التقارير الدولية والمركز المغربي للديمقراطية والأمن، ندوة علمية ”عن بعد” حول موضوع: “دور الحرية الأكاديمية في تجويد البحث العلمي وتكريس استقلالية الجامعة“. وذلك يوم السبت 23 أبريل 2022 لمدة 3 ساعات متواصلة.
وقد افتتح هذا اللقاء من طرف الدكتور المصطفى بوجعبوط ميسر الندوة، الذي شكر الأساتذة الأفاضل على تلبية الدعوى وكذا رحب بالمتتبعين والمتتبعات لهذه الندوة العلمية كما عبر عن اعتزازه بتعاون المركزين حول قضايا الفكر والمجتمع ذات الاهتمام المشترك، وقدم مسير الندوة أرضيتها وسياقاتها واستحضر فيه درجة الحرية الأكاديمية بالمؤسسات الجامعية بالمغرب والتأثير الايجابي لها على هيأة التدريس والطلاب أو التأثر بانعدام تلك الحرية على تفاعلات مختلف المتدخلين وأثرها على البحث العلمي.
وأكد أن الحرية الاكاديمية تعتمد على الحق في الممارسة الفضلى لمختلف المتدخلين في الحياة الجامعية (هيأة التدريس،أعضاء، موظفين، طلاب،…)، فالحرية الاكاديمية تكتسي أهمية كبيرة للمجتمع وللمجتمع الاكاديمي ولمختلف المؤسسات الاكاديمية التي تؤدي رسالتها على اكمل وجه لطلاب المعرفة التي تقود المجتمعات إلى التطور والتقدم والازدهار في كافة المجالات حيث تركز على العنصر البشري أو العقل البشري من خلال تصنيعه بمقاس أكثر كفاءة وقدرة على تسيير المجتمع في المستقبل، فبدون الحرية الأكاديمية أو الأمن المعرفي لا يستطيع الباحثون أو الطلاب تقديم ابحاثهم العلمية الحقيقية على المستوى المطلوب الذي يساهم بتطور المجتمع وتحسين انتاجاته العلمية ومتغيراته ومتطلباته المستقبلية. ومن هنا تكتسي الحرية الأكاديمية للجامعات والمؤسسات الاكاديمية أهمية تفاعلية لأجل نمو الفكر بشكل سليم للإبداع والابتكار والاستثمار الفكري بكل حرية ودون قيد أو شرط.
و سلم مسير الندوة الكلمة للسادة الأساتذة لمناقشة موضوع الندوة من زوايا مختلفة لأهميته العلمية والبحثية.
فقد منحت المداخلة الأولى لدكتور إحزرير عبد المالك، استاذ علم السياسة وعضو الجمعية المغربية للعلوم السياسية، وخبير لدى المركز الوطني للبحث العلمي بالرباط، حول: “حرية الاجتهاد الأكاديمي في الجامعة: أدوار الدولة والمجتمع“. و أكد الاستاذ الفاضل على أهمية موضوع الندوة باعتباره يشكل جوهر الوجود على المستوى الأنطولوجي للمدارس والجامعات والمراكز والذي هو توسيع المعرفة وتطويرها. قد انطلق في بناء إشكالية مداخلته من كتاب حول حرية القدامى وحرية المعاصرين، حيث اعتبر أن الحرية المطلقة كانت عند القدامى في تفكيرهم وفي غدوهم وأرواحهم ووجدانهم، لكن مع نشأة الدولة انحصرت هذه الحرية وانحصرت معها أفكارهم واختياراتهم، وهو الاتجاه الذي سار فيه جان جاك روسو الذي يعتبر أن الحضارة تقيد المعرفة وتقيد الفكر وتؤدي إلى التعاسة. فالحضارة في نظر روسو باعتباره رجل انطباعي ورجل أدب رومانسي الطابع، حيث اعتبر أن الحضارة قد أفسدت علينا سعادتنا. ولذلك فإن بروز الدولة كان وباءا على حرية المعرفة، هذه الأخيرة التي تنبع من المجتمع. ولأن الدولة بنفسها نابعة من المجتمع الذي أنشأها فإنها يجب أن تكون حاضنة للمعرفة.
كما أشار إلى أن كل المعرفة التي تركت أثرا كبيرا لم تخرج من الجامعة بل هي نتاج فكري يترجم تعبير المجتمع في حقبة زمنية معينة، ودينامية الأجيال تسير متوازية مع هذه الديناميات الفكرية للمجتمعات. وقد أعطى نموذجا للإنتاج الفكري والأدبي الروسي الذي أنتجه بعض الكتاب كمكسيم غوركي وتولستوي، وهو نتاج لم تستطع الجامعة أن تنتجه بل أنتجته الحرية المعرفية الخارجة عن دائرة السلطة والدولة. والأمر يمتد في هذا المجال لإنتاجات أخرى كجون بودان وطوماس هوبس وغيرهم الذين جاء نتاجهم تحت وطأة الخوف من السلطة بما فيها كتابات ميكيافيلي. فالواضح أنه لا تنتج الأفكار حسب المتدخل إلا بالحرية الفردية في مجتمع حر.
وقد تطرق إلى أنه قد توقفت المراكز العلمية وجفت الأفكار في زمن الأنظمة الشمولية التي اكتسحت جزءا من أوروبا وجعلت المثقف مجرد آلة في يد السلطة. وقد ذكر كيف أن موسوليني زعيم الفاشية بإيطاليا قد أزعجته أعمال انطونيو غرامشي فأمر بالقبض على هذا الرجل وحبسه حتى يتوقف عقله على الإنتاج وعلى الابتكار وسجن ل25 سنة حتى توفي وفي السجن كتب كتابه الشهير في خمسة أجزاء “دفاتر السجن” .
لقد شكلت الفاشية حسب المتدخل اختبارا قاسيا للعديد من المفكرين والمثقفين والفنانين ولكن لما تمت مأسسة المعرفة على يد الدولة من أجل تكييف المعرفة لنظام الضبط أصبحت كل الاجتهادات الفكرية تتجه نحو السلطة ولا تخرج عنها.مما جعل المثقف لا يخرج عما سطرته الدولة من خطوط وحدود. وهكذا أصبحت المعرفة في خدمة السيطرة، خصوصا في العصر الوسيط ومع محاكم التفتيش التي جعلت المعرفة مقيدة من طرف الدين رغم المحاولة الإصلاحية للكالفينيين أو لمارثن لوثر، ولم تخرج المعرفة عن المقاربة الكاثوليكية.
وبعد هذا السرد الكرونولوجي لحرية المعرفة انتقل المتدخل إلى مأسسة المعرفة والاجتهاد الأكاديميين، حيث اعتبر أن هذه المأسسة قد انطلقت سنة 1925 من خلال انعقاد مؤتمر الحرية الأكاديمية لتشجيع البحث، غير أن هذا المؤتمر كان يسير في اتجاه انجلوسكسوني، وهو اتجاه جيد لحد ما، لأنه كان يسهر على المعرفة دون رقابة مؤسسات الدولة، غير أنه وبعد ذلك سينقلب الاجتهاد المعرفي إلى مأسسة وسيسير في الاتجاه الذي سارت فيه جميع الحقوق السياسية، حيث ستصير هنالك ضوابط وقواعد.
بل واعتبر أن دسترة المعرفة قد عقدت المعرفة نفسها وعقدت حرية المعرفة، بل وتم تقييدها، ذلك أن كل حق إلا وتم تقييد باستثناء. فالمأسسة ساهمت في البؤس المعرفي الذي يعرفه المجتمع اليوم، لأن الجامعة أصبحت جزءا مكونا للدولة وليست للمجتمع للأسف، والعميد وإدارة الجامعة تجسد الرسميات والمساطر والقوانين والضوابط.، الأمر الذي قلص من فضاء التفكير والاجتهاد لهذا فغياب حرية البحث العلمي أو حضور الكبت الفكري والذي يتعاظم مع الأيام، سببه المأسسة والضبط المبالغ فيه، لأن المعرفة تشكل خطرا على الدولة وليس على المجتمع.
فلقد حصل نوع من الانفصام ما بين المجتمع والباحث، حسب المتدخل، مما جعل مساهمة هذا الأخير ضعيفة ومتدنية في عصرنة المجتمع وتحديثه. فالدولة معادية لحرية المعرفة وتستقوي بأجهزة إعلامية باهظة مما جعل البحث للعلمي يتغير بالمتغيرات السياسية وبالتراث الجامد والمؤلفات السطحية. لذلك فالحرية يجب أن تكون كاملة وغير ناقصة، وعلى الدولة أن تميز ما بين الحق في التفكير الذي هو مطلق، والحق في التعبير الذي قد ترد عليه بعض الاستثناءات والخصوصيات. فالحق في التعبير هو حق في القول والكتابة والحصول على المعلومة، بالإضافة إلى الحق في المشاركة السياسية.
كما تساءل المتدخل عن الضمانات التي تنص عليها بعض الفصول الدستورية والمتعلقة بالحق في التعبير والإبداع والابتكار، وعن مدى كفالتها لهذا الحق. أم أن الأمر يتعلق بتقييدها وضبطها لحرية المعرفة حسب ما ترتضيه الدولة.
فبالرغم من المؤتمرات والمعاهدات فلم تكن الحرية الأكاديمية بمنأى عن التهديدات والانتهاكات المرصودة في هذا المجال حتى في أرقى الديمقراطيات البرلمانية. فالمجتمع يريد حرية أكاديمية على أساس البحث عن الحقيقة، بينما الدولة تحاول وضع حرية التعبير ضمن ضوابط وقيود، وهاتان الحريتان، أي حرية الحقيقة وحرية التعبير هما جوهر التدريس.
واعتبر أن الدولة قد استطاعت فرض هيمنتها من خلال المدرسة ومؤسسات التنشئة عبر الأسرة والمدرسة والإعلام والمقررات المدرسية التي تحتوي على مضامين تساير طبيعة النظام ولا تساير متطلبات المجتمعات. فالعالم قد استقال استقالة جماعية رغم المراكز والمختبرات والجامعات من العقل، لأن القدامى أعطوا للعقل وللفكر قيمة كبيرة لأنه مهم لبناء المجتمعات.
وذهب الأستاذ إلى أن هنالك اليوم جناحا يمينيا متطرفا في هذا العالم سيطر على المراكز العلمية في دول كبرى، يحمل قيما خرافية وأسطورية تقوم على نصوص تدمير العالم، علما أن المعرفة هي بناء العالم، لهذا وجب الحذر من هذه الأفكار القاتلة اليوم والتي بلورتها بعض مكونات المجتمع العلمي والمعرفي باسم البحث الأكاديمي، وهي مكونات أصبحت أداة للهيمنة والسيطرة وشرعنة الحروب وإذكاء العداء باسم صراع الحضارات.
أما المداخلة الثانية كانت للدكتور مساعد عبد القادر، أستاذ التعليم العالي -كلية الحقوق بطنجة ومنسق ماستر حقوق الانسان – رئيس المركز العلمي الدولي للحوار والمناقشة حول الأبعاد الجديدة لحقوق الإنسان، حول موضوع : “نظرات في حرية البحث العلمي بالجامعة المغربية“، بعد التحية والشكر للتوجه الذي يسير فيه مركز العدالة الانتقالية ودراسة التقارير الدولية، من حيث نوع النقاش الذي اختار خوضه، وهو نقاش اعتبره جديدا وثورة جديدة في الفكر، بالنظر لخصوصية المواضيع التي يطرحها وجديتها، وخصوصا من خارج الجامعة.
بعد ذلك تناول موضوع تدخله حيث اعتبر أن موضوع الحرية الأكاديمية هو موضوع شائك لارتباطه بنخبة فكرية وبنوع من المعرفة التي يجب ان تسود داخل المجتمع، وبالنظر لامتدادات هذا الموضوع تاريخيا وارتباطه بالصراع بين الدولة والحرية وسؤال السلطة. لهذا وجب مقاربة الموضوع من زاوية ما يربط الأكاديمي بالدولة والتحول الذي طال هذه العلاقة.
فالحرية هي معطى معرفي لازم للبحث العلمي لا غنى عنها، وهي تستوجب وقفات يمكن إجمالها في خمس نقط أساسية:
- إشكالية الولاء التنظيمي: حيث اعتبر أن الولاء يجب أن يكون للمؤسسة ولإيديولوجيتها، فالولاء لا يجب أن يكون للمسؤولين وللقياديين في المؤسسة، أي يجب الفصل بين فكر ومعتقدات الأكاديمي وبين الفكر الذي تهدف إليه الجامعة وقيمها. ودلالة الولاء هنا هي الإخلاص للفكر الجامعي أو للفكر أو للفكر الحر وليس للأشخاص. أما الاندماج فيعني عدم النفور والهروب، حيث إن بعض الأكاديميين يجدون أنفسهم خارج الإطار التنظيمي، لأنهم يجدون الحرية خارج الجامعة أكبر منها داخل الجامعة. و بالنسبة للمحبة، فالعلم بالنسبة للذي يحبه والحلم للذي يعشقه، ولكن التنظيم للذي يطلبه. لهذا فمسألة الولاء التنظيمي تسائل كيفية اختيار القادة الذين يسيرون الأكاديميات العلمية التي تحتضن الحرية الأكاديمية.
- التأثير السياسي: حيث إن الجامعة تصبح أحيانا أداة لتسويق أفكار سياسية معينة. فالتأثير السياسي على الحرية الأكاديمية حاضر بقوة. كما أن الكتاب السياسي الذي يكتبه السياسي أكثر مبيعا ورواجا وتسويقا وحضورا من الكتاب الذي يكتبه الأكاديمي. فنحن أمام محاولة تسييس الحرية الأكاديمية. سب ما ذهب إليه المتدخل، وبالتالي فالحرية السياسية متفوقة على الحرية الأكاديمية. وأمام محاولة إضعاف الحرية الأكاديمية بالفعل السياسي. حيث نجد أن ثمة سياسيون هم من يقومون بافتتاح الدرس الأكاديمي أحيانا. وهذا أمر ليس مرفوضا ولكن يجب أن يكون هناك توازن بين السياسي والأكاديمي.
- احتواء الإعلامي للأكاديمي: أي إشكالية التلازم بين الحرية الأكاديمية وحرية الصحافة. حيث نجد أن الإعلامي يقوم بالوظيفة الأكاديمية بالإضافة إلى الوظيفة الإعلامية، وهو اعتداء على الاختصاص الأكاديمي، وتهريب الوظيفة الأكاديمية نحو البنية الإعلامية وهو يؤثر على الحرية الأكاديمية، ثم اختيار زمرة من الأكاديميين وتوجيههم بشكل غير مباشر نحو قضايا إعلامية إيديولوجية. حيث يصبح الأكاديمي في خدمة الإعلامي تحت مسميات مختلفة. كما يتجلى هذا الأمر في صناعة المصطلحات، وتصديرها إلى الجامعة، وليس العكس للأسف، مما يؤدي إلى تلوث مصطلحي على المستوى الجامعي.
- التصور المجتمعي للأكاديمي القائم على نظرة المجتمع إليه : فنظرة المجتمع للأكاديمي تقوي الحرية الأكاديمية أو تقزمها. فالشائع أن الجامعة تستهلك ولا تنتج.مما يجعل من وجهة نظر المجتمع أن الحرية الأكاديمية هي منحة أو صدقة من طرف الدولة. وهذا أمر غير صحيح، فالجامعة تنتج علما ومعرفة. كما أن ارتباط الأكاديمي بالدولة من خلال علاقة وظيفية تقوم على الخدمة مقابل الأجر يزيد من تقزيم الحرية الأكاديمية.
- غياب الرغبة في تعزيز الحرية الأكاديمية: فهناك عمل ممنهج لإضعاف الحرية الأكاديمية بأدوات إدارية مختلفة، من خلال تقوية الإدارة في مواجهة الأكاديمي، وكذا دفاتر التحملات كآلية تعقد البحث الأكاديمي، بالإضافة إلى إلزام الباحث الأكاديمي بالعمل الجماعي، علما أن الحرية الأكاديمية تتأسس على العمل الفردي فيما يتعلق بالإنتاج الفكري. وقد ختم مداخلته مؤكدا على أن السياسة والإدارة والإعلام لن يرضوا عن الأكاديمي حتى يساير توجههم.
وفي الأخير خلص الاستاد إلى مقترحات وتوصيات يجب تفعيلها لتحقيق الحرية الأكاديمية التي تخدم الدولة والشعب على السواء :
- الحرية ذات طبيعة تنظيمية يجب تكريس الأمن القانوني لها
- التأطير العلمي مع ضرورة تمويله
- الاستقلالية
- ضرورة بناء الثقة العلمية
- تقوية الدبلوماسية الأكاديمية
- ملاحظات تفسيرية وملاحظات لشرح وتفسير العلاقة بين الحرية الأكاديمية والتحول الديمقراطي .
أما المداخلة الثالثة كانت للدكتور عبد الجبار عراش أستاذ التعليم العالي – كلية الحقوق – سطات – مدير مختبر الأبحاث حول الانتقال الديمقراطي المقارن، حول: “الحرية الأكاديمية بالجامعة المغربية، حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي: ترابطات الغايات والوسائل“، وبعد تقديمه للتحية والشكر تحدث عن هيكلة موضوعه من خلال تمهيد ومحور أول يهم الترابط الجدلي ما بين الحرية الأكاديمية وحقوق الإنسان، ثم محور ثاني مخصص لملاحظات تفسيرية تهم العلاقة ما بين الحرية الأكاديمية والتحول الديمقراطي.
التمهيد: المسلمات الثلاث
تضمن ثلاث مسلمات :
- المسلمة الأولى هو أن كل المجتمعات عبر التاريخ لم تضع تقييدا فحسب للحرية الأكاديمية، بل عرفت تضييقا وتقييدا للحرية الأكاديمية والبحث العلمي، بمعنى أن البحث العلمي والحرية الأكاديمية لم يكونا مستقلين عن الدولة وعن الكنيسة، أو عن رجال الدين أو عن قوة السوق بمفهوم الاقتصاد.
- المسلمة الثانية أن العالم اليوم بكل جوانبه الإيجابية أو السلبية هو نتيجة للعلم والتكنولوجيا، وهما العنصران اللذان سخرا من طرف الإنسان واستطاع الإنسان من خلالهما إيجاد عدة إجابات لعدة إشكالات. لكنهما في الوقت نفسه خلقا مشاكل فجرت عدة أزمات وعدة كوارث لهذا الإنسان.
- أما المسلمة الثالثة فهي أن العالم يعرف اليوم ديناميات متعدد تكنولوجية واقتصادية وبيئية واجتماعية وقيمية، وهذه الديناميات قد أفرزت ظواهر تكاد تكون شاذة، كالتطرف الديني في كل الديانات السماوية، والشعبوية واستبداد السلطة، وكذا أحيانا تمييزا عنصريا. وهذه الظواهر الشاذة استطاعت أن تتسلح بأسلحة خطيرة تتمثل في الأخبار الزائفة، ما خلق مناخ معاد تماما للعلم والمعرفة.
المحور الأول: الحرية الأكاديمية وحقوق الإنسان حسب المعيارية الدولية والوطنية.
ضم المحور الأول ست ملاحظات تفسيرية:
- الملاحظة التفسيرية الأولى: حيث نجد نصوصا دولية ووطنية نصت على الحرية الأكاديمية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان من خلال مادته 27 وكذا العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة اما على المستوى الوطني، فالدستور لم يكن واضحا بجلاء ولم يكن جليا بوضوح من خلال الفصل 25 لكن دونما ذكر للحرية الأكاديمية. ثم هناك القانون 01.00 الذي ينص على أن التعليم العالي يمارس وفق مبادئ حقوق الإنسان والتسامح وحرية الفكر والإبداع مع الاحترام الدقيق للقواعد والقيم الأكاديمية..الخ. وهو تنصيص نظري في بعديه الدولي والوطني يطرح مدى انعكاسه العملي على مستوى الواقع لفعلية هذه الحرية.
- الملاحظة التفسيرية الثانية: هو أن الحرية الأكاديمية تعتبر حقا من الحقوق الأساسية، باعتبار أن هذه الأخيرة هي حقوق دفاعية يحميها المواطن نفسه من اعتداءات الدولة. وهذا يعني أن الإنتاج العلمي وفق الحرية الأكاديمية يخضع للضوابط العلمية والأسس الموضوعية وليس لاشتراطات السلطة.
- الملاحظة التفسيرية الثالثة: هي حق أساسي وظيفي وخدماتي وهو ما يفسر ارتباطها بمسألة التمويل، وبالتالي فالحرية الأكاديمية تقاس كذلك لا تقاس فقط بالاستقلالية بل كذلك بالتمويل. حيث نجد أن نسبة الميزانية الموجهة للتعليم العالي حسب المتدخل داخل الميزانية العامة للدولة لم تتجاوز 75 بالمائة، وهي نسبة ضعيفة جدا.
- الملاحظة التفسيرية الرابعة: الحرية الأكاديمية تعني أن الأكاديمي والباحث الجامعي مسؤول لهذا يتوجب عليه الابتعاد عن المعايير العلمية عندما يضع معرفته خدمة لمصالح اقتصادية أو سياسية أو إيديولوجية أو حتى عسكرية وأمنية. ولا يضعها لإنتاج المعرفة العلمية الأصيلة والرصينة.
- الملاحظة التفسيرية الخامسة: الحرية الأكاديمية هو حق أساسي ذو بعدين: بعد سلبي وآخر إيجابي. بعد سلبي يتمثل في ضرورة حماية الدولة ومؤسساتها للحرية الأكاديمية لتفادي التجاوزات والاختراقات والاحتواءات التوظيفية، والبعد الإيجابي يتمثل في تخصيص ضمانات مالية لخلق فرص لإنتاج المعرفة العلمية.
- الملاحظة التفسيرية السادسة: التمييز بين العلم والقيم على أساس أن مهمة ووظيفة العلم تكمن في إنتاج معرفة أصيلة وموضوعية، أما تطبيق وتنفيذ نتائج البحث العلمي فتبلور في سياسات عمومية وتؤول حصرا إلى قرارات السياسة وقرارات المجتمع، كما أن المزاوجة بين العلم والقيم يمكن ان يهدد موضوعية البحث العلمي، مع ضرورة التفريق ما بين قيم ابستيمية وأخرى غير ابستيمية،
المحور الثاني: الحرية الأكاديمية والتحول الديمقراطي.
والذي ضم بدوره ست ملاحظات تفسيرية:
- الملاحظة التفسيرية الأولى: هو انه كلما كان مستوى الديمقراطية متوسطا أو ضعيفا إلا وانعكس ذلك على الحقوق والحريات بما فيها الحرية الأكاديمية.
- الملاحظة التفسيرية الثانية: الحرية الأكاديمية هي موضوع سياسي بامتياز على اعتبار أن المعرفة الحرة والمستقلة والمنفتحة تعد بمثابة منفعة عامة ضرورية لكل تحول ديمقراطي بالمغرب. وبالتالي وجب التصدي للمضايقات باعتماد مقاربة فكرية علمية تتأسس على تحديد الإطار المفاهيمي للحرية الأكاديمية.
- الملاحظة التفسيرية الثالثة: هي ان هناك ترابط قوي ووطيد يكاد يكون جدليا ما بين الحرية الأكاديمية والديمقراطية. على اعتبار أن مسلسل التحول الديمقراطي كلما عرف تراجعا إلا وقيست هذه التراجعات وفق مجموعة من المؤشرات والحرية الأكاديمية إحداها، والعكس صحيح.
- الملاحظة التفسيرية الرابعة: لابد من الانضباط الذاتي لكل من الأكاديمي والديمقراطي. فالأكاديمي والسياسي لهما قواسم مشتركة.
- الملاحظة التفسيرية الخامسة: هو أن حفظ الحرية الأكاديمية هو كفيل بحفظ باقي الحريات، فالخدش والمساس بباقي الحريات الأخرى يدل على غياب حرية أكاديمية.
- الملاحظة التفسيرية السادسة: فالحرية الأكاديمية وظيفة سياسية، تهدف إنتاج بحث علمي ومعرفة علمية غير مسيسين، فهي تقدم دورا مهما للمجتمع. كما أن المجتمع لا تقاس حريته من خلال الأبعاد المعيارية القانونية والخدماتية للحقوق والحريات، بل من خلال انفتاح بنيته الابستيمية.
وأكد بعد ذلك على أنه يمكن ملامسة الحرية الأكاديمية مع التحول الديمقراطي أو الديمقراطية من خلال ثلاث زوايا تحليلية:
- الزاوية الأولى: اعتبار المعرفة والبحث العلمي شرطين أساسيين للمجتمع، وهنا تتجلى وظيفة البحث العلمي لضمان الوصول لاتخاذ قرارات عقلانية وتفادي الوقوع في الخطأ أو الخلل الذي يكون في بعض السياسات العمومية الموجودة في إطار التشكل.
- أما الزاوية الثانية: فهي وجود تماثل ما بين الديمقراطية والعلم، فكلاهما يتميزان بقيم ثقافية وبالعقلانية والنفعية والعالمية والفردانية.
- الزاوية الثالثة: في حاجة الدول السائرة في طريق الديمقراطية الى علم نافع وفعال كمصلحة وجودية وحتمية ومصيرية.
أما فيما يتعلق بالمقترحات التي قدمها المتدخل:
- المقترح الأول: تكريس الأمن القانوني للحرية الأكاديمية كإطار لها ينظمها داخليا وخارجيا، وتنظيم كل ما يتعلق بها بشكل من الوضوح.
- التأطير العلمي، من خلال رفع التمويل الأساسي للجامعات.
- الاستقلالية بيداغوجيا وعلميا وتدبيريا.
- يناء الثقة عن طريق تكريس ثقافة الشفافية والموضوعية والتصدي للسرقة العلمية، والتصدي للولاءات الشخصية، والقبلية، والحزبية وغيرها.
- تقوية الديبلوماسية الأكاديمية من خلال مشاريع وشراكات تعالج قضايا الدولة والمجتمع بكل تلاوينها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وخصوصا السياسية.
أما المداخلة الرابعة للدكتور محمد المرجان، أستاذ التعليم العالي- ورئيس الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، حول:”الجامعة والحرية الأكاديمية” فبعد التحية والشكر، شدد الدكتور محمد المرجان على أهمية اختيار موضوع الندوة وقيمته الكبرى. ثم عرج على تحليله لمجموعة من النقط، أولاها علاقة الأكاديمي بالدولة.
أكد على أنه هذا الأمر لا يمكن التخلص منه بسرعة. فقد اعتبر أن اللحظة التي أسست في أوروبا لعلاقة السياسي بالأكاديمية هي اللحظة التي انحلت فيها السلطة الدينية، وانفصلت الدولة تماما عن الكنيسة. فأحست الدولة لحظتها أنها بحاجة إلى معرفة أخرى، هذه المعرفة التي تمكنها من الوصول إلى المجتمع ومن الاطلاع على حيثياته، والاطلاع على تناقضاته بشكل منطقي وعلمي. وفي هذا الإطار تم الاعتماد على المثقفين وعلى الأكاديميين بشكل خاص، وكانت العلوم الإنسانية في مقدمة هذه الأمور بما فيها من مناهج تم استعمالها في هذا الإطار من اجل فهم المجتمع.
فالعلاقة ما بين الدولة والأكاديمي حسب المتدخل هي علاقة تاريخية، ولا يمكن القول أنها كانت دائما علاقة تناحرية، لان المسالة مرتبطة بظرف تاريخي لكل دولة، وبالمعنى العام الذي نمنحه لهذه العلاقة. لهذا السؤال المطروح هوما مدى إمكانية وصول هؤلاء الأكاديميين إلى ما وصلوا إليه لولا دعم الدولة؟
فقد ارتأى أن فالعلاقة تحتاج لتحليل اكبر. ذلك أنه وكما أن الأكاديميين دائما كانوا بحاجة إلى مساعدة، حتى في حالة انفصالهم عن الدولة في بعض الظروف، كانت هنالك جماعات ساهمت لحد ما في تمويل العديد من البحوث العلمية. ثم ستأتي بعد ذلك الجماعة العلمية التي ستتآلف مع بعضها ووصلت لحد من التوافق المالي والاقتصادي فيما بينها.
وفي خضم تدخله، تساءل الدكتور : لماذا الحديث عن الحرية الأكاديمية في هذا الوقت، ولماذا لم يتم التفكير فيها سابقا؟
لقد كان المثقف الجامعي سابقا يخشى التطرق لهذه المواضيع، وربما كانت من المواضيع المسكوت عنها. لأن الأكاديمي دائما يحاول التحلي بالموضوعية، غير ان الحديث عن الجامعة قد لا يكون متسما بموضوعية تامة.
وبعد هذا التمهيد قسم مداخلته إلى محورين:
المحور الأول: الحرية الأكاديمية وشروطها.
حيث تطرق في هذا المحور لكل من العصر الإغريقي والعصر الإسلامي ثم لاستقلال الجامعة في القرن 16. كما أشار للدستور الألماني الصادر سنة 1885 واعتبره متقدما في مجال الحرية الأكاديمية، حيث اعتبر أن الأستاذ الجامعي حر في البحث والتدريس. كما نص على حرية الطالب الجامعي. مع ضرورة فتح النقاش والحوار داخل الجامعات، وتحكيم الإنتاج العلمي من طرف ذوي الخبرة في مجال التخصص. والتقيد بشروط الأمانة العلمية والصدق والموضوعية في من له حق التحكيم في العمل الوطني.
المحور الثاني: تهديدات الحرية الأكاديمية
حيث اعتبر أن ثمة مجموعة من التهديدات التي تعترض الحرية الأكاديمية، والتي من بينها:
- التضخم البيروقراطي.
- ضعف الرضا الوظيفي والمهني لدى العاملين في الجامعة.
- انخفاض مستوى البحث العلمي.
- تقلص وتراجع جودة التعليم العالي.
- وجود نظام سياسي يستهدف الأساتذة الجامعيين والصحافة، أو أي فرد يعبر عن مخالفته للنظام القائم.
- تدخل النظام في رسم الحدود المعرفية بشكل مطلق إلا ما كان في خدمة الولاء السياسي.
وقد خلص إلى تعريف الحرية الأكاديمية حيث اعتبر انه ليس هنالك أي كلمة او مفهوم أو صورة أو مؤلف يمكن استبعاده أو إقصاؤه من النقاش ومن الاختبار النقدي في إطار التدريس والبحث الجامعي. أي البحث عن الحقيقة دون أي مانع أو إكراه.
أما المدخلة الخامسة كانت للأستاذ منوزي مصطفى، رئيس المركز المغربي للديمقراطية والأمن، تحت عنوان: “جدلية الحق في الأمن المعرفي ودمقرطة الحقيقة العلمية“، بعد تقديمه للتحية والشكر، أشار إلى تزامن هذه الندوة مع اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، ثم عرج بعد ذلك على معالجة الموضوع من خلال تطرقه للأمن المعرفي وللحقيقة العلمية.
من المجدي الإحالة إلى تقرير الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين حول ” البحث العلمي والتكنولوجي بالمغرب / دراسة تقييمية ” خلص إلى معاينة ضعف البحث العلمي في الجامعة المغربية والذي لا يعود إلى السياسات العمومية أو البنيات التحتية ولا للنموذج البيداغوجي المعتمد، بل يعود إلى مشكل في الموارد البشرية لدى الأساتذة الباحثين حيث طغيان مهام التدريس والتأطير على حساب البحث العلمي ، إضافة إلى ضعف الميزانيات المرصودة لمشاريع البحث ، كما خلص التقرير أيضا إلى ان الأزمة تشكل تهديدا خطيرا وجديا لتطور المنظومة التربوية مشيرا إلى ان المدرسة العمومية اصبحت آلة لإعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي ، وأنه لم يكن لمسار الإصلاح اي مفعول او وقع إيجابي . كما أكد التقرير أنه كلما ازداد التحصيل الدراسي تدنيا في المنظومة التربوية المغربية ، كلما ارتفعت نسبة النجاح في المستويات الإشهادية ، مما ينتج عنه تفاقم نسبة الهدر المدرسي والجامعي على الخصوص خلال العشرية الأخيرة .
إذن في ضوء هذه المعطيات الرسمية يمكن مساءلة الدولة عن مدى توفيرها لشروط تفعيل مشروع الإصلاح الذي وعدت به في العلاقة مع مطلب اكتساب الكفايات في الجامعة وسؤال اعادة تأهيل المكونين . فالدولة كانت تعتمد الجامعة كمشتل لتخريج الأطر بعد تكوينهم كنخبة لتدبير الشأن العمومي ، وقد عشنا مرحلة كانت بعض المؤسسات العمومية والمصالح الوزيرية تستقطب الخريجين كفاعلين مرشحين للعب ادوار داخل مناصب حساسة وخاصة على مستوى الإدارة الترابية والامنية والقضائية ، وبعده ستنفتح آلية وقنوات الاستقطاب على ما سماه جان فرانسوا ليوطار الفرنسي بسوق الكفايات الإجرائية بحيث سيخضع الطلب على الكفايات لرهانات مجتمعية واقتصادية في سياق تكوير المهارات وتداخل التخصصات . وبالتالي سيظل الرهان مجتمعيا أكثر منه تربويا ، مما يفضي إلى إخفاق بين في صناعة المواطن ، وقد تأثرت العملية ، في إطار تحليل الأسباب وربطها بالنتائج بالوقائع والسياقات التاريخية . فالإشارة ضرورية إلى تصاعد المد المحافظ دوليا ، على عهد ريغان وتاتشر ، وتنامي نفس الظاهرة اليمينية والاصولية إثر الثورة الإيرانية وقضية افغانستان ، واستغلال القطب الإسلامي السني للفرصة لتطويق الفكر التقدمي ومحاصرة التفكير النقدي ، وانتعاش فكر التسوية في القضايا المصيرية ، وكان للمغرب دور ريادي في تزعم ” حراك التسويات ” باسم مواجهة المد الشيعي ، وكانت حملة القمع التي شنت على قوى اليسار في الجامعة خلال بداية الثمانينيات واواسطها ، وما نتج عنه من إخلائها من الأطر الطلبة التقدميين وإخلال الطلبة الإسلاميين ، وهي مرحلة انطلقت غداة إضرابات 10 و 11 ابريل 1979 في قطاعي الصحة والتعليم وما ترتب عنها من قمع رجال ونساء الصحة والتربية الوطنية .
وقد صدر تقرير الخمسينية حول التنمية اقترانا مع تقرير هيأة الإنصاف والمصالحة ، واللذين رغم عدم تركيبهما في إطار ربط النتائج بالأسباب ، فإنهما اصرا على ضرورة القيام بإصلاحات جوهرية دستورية وتشريعية ومؤسساتية وسياسية ، وخاصة في مجالات حيوية تقتضي رد الاعتبار للبعد الاجتماعي والحقوقي في السياسات العمومية وكذا الهويات الحزبية . وكان الرهان على اصلاح المنظومة التربوية في افق خلق مجتمع المعرفة والحقيقة بديلا لمجتمع الدولة ودولة الهيبة المستندة على مقتضيات القوة والجهل والتضليل . فهل تحقق الأمن المعرفي المفترض فيه ان يشكل جسرا لتحقيق جودة البحث العلمي المنتج للتنمية والتقدم؟
لقد ظل مطلب دمقرطة الحقيقة العلمية يصاحب مطلب ضمان الأمن المعرفي ، وقد عشنا لحظات زمن كورونا التي ابانت وفضحت هشاشة المنظومة الصحية بالأساس ومعها المنظومة التعليمية ، وطرح سؤال الرهان على البحث العلمي من اجل صناعة العلاج ضد الوباء الفتاك ، والمغرب كسائر الدول عاش فوبيا انهيار المنظومات الصحية وعاد الحق في الحياة كمطلب حيوي واستراتيجية يخص الإنسان والأوطان ، وكان الرهان على العلم الكفيل وحده لرفع التحديات تجاه الاسطورة والشعوذة كوسائل بدائية للعلاج ، وبنفس القدر الذي طرح سؤال الخصاص الاجتماعي كتداعيات لمرحلة ما بعد كوفيد ها نحن سنعيش مرحلة الخصاص المعرفي ، لتظل الخلاصة أن هذا الخصاص المعرفي سيشكل موضوع عناية المقاربة الأمنية كما الخصاص الاجتماعي بحكم التوترات والقلاقلى التي ستترتب عنه .
وبالتالي فالتحدي ليس فقط تربويا بل اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وأخلاقيا ، لأن الدولة مسؤولة عن إقرار الحقيقة العلمية ومصارحة المواطنين بها ، بدليل أنها تخشى الحقيقة ، ولذلك تم اللجوء إلى التحايل على مبدأ اختيارية التلقيح باعتماد إجبارية تقديم جواز التلقيح ، بمثابة تدليس على الحقيقة القانونية والتاثير على مصير نزاهة الحقيقة القضائية ؛ الشيء الذي سيؤثر على الأمنين القانوني والقضائي في ظل هشاشة الحكامة التشريعية .
ولأن الرهان المعرفي لا يمكن ان نفصله عن الرهان المجتمعي ، فإن المغرب الذي يثوق إلى أن يحتل موقعا متقدما ، ليس كمنحة من الغرب الرأسمالي ، ولكن كحقيقة تنموية ترسخ طموح الكف عن لعب دور الدركي أمنيا ودور الكمبرادور اقتصاديا وماليا ، وفي إطار الندية المنشودة ، في العلاقة مع الاستعمار والجوار ؛ فإنه مطلوب من الدولة أن تستثمر في الاكتشاف العلمي الذي حصل في جبل إغود بمنطقة اليوسفية ، والذي من شأن العناية به خلق إقلاع اقتصادي مهم ، وهو أمر يقوي مكانة الدولة رأسماليا ويساعدها على تحديث نفسها ، ليتحرر النظام السياسي ومعه المجتمع من التقليدانية المعرقلة لأي تحول ديموقراطي ، فلا ينبغي على الدولة ان تخشى ان يتحول الإكتشاف العلمي إلى وسيلة انتحارية ، فأمام المغاربة فرصة تاريخية لكي يحققوا انتفاضة علمية شبيهة بما حققته الهزة الداروينية والفرويدية والكوبرنيكية ، ولنخرج من منظومة المكان الفزيائية إلى منظومة الزمان الذهنية ، باستغلال الإكتشاف العلمي للعمر الحقيقي للإنسان العاقل ذي الأصل الإفريقي المغربي ، فهل نقبل التحدي بالإقرار بالحقيقة العلمية المنتجة للتقدم والإنعتاق من شرنقة التخلف القدري القاتلة ؟
أما المداخلة الأخيرة كانت للدكتور محمد جعفر، أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري كلية الحقوق – مكناس وعضو المركز المغربي للعدالة الانتقالية ودراسة التقارير الدولية، موسومة بعنوان : “الحرية الأكاديمية بالجامعة المغربية : مراجعة نقدية“، انطلق المتدخل من سؤال أساسي حول كيفية تحرير العقل من جمود التقليد.
واعتبر انه يقصد هنا التقليد الجامد، التقليد البائس الذي يقضي بان يتحدث الأكاديميون لبعضهم البعض في مواضيع مثل الحرية الأكاديمية. كما ارتأى أن المركز استطاع أن يكسر هذا التقليد وينقل الحرية الأكاديمية من مجرد حق مهني إلى حق ضد التمييز إنسانيا ثم إلى ربطه بالمسؤولية الاجتماعية.
كما اعتبر ان الحرية هي ماهية الفكر كما يذهب إلى ذلك هايدغر، باعتبارها تحتوي على كينونة الإنسان. وبالتالي فإن الحرية الأكاديمية هي الماهية التي تحتوي كينونة المجتمع الأكاديمي.
وقد ركز تدخله على أربعة حالات اعتبرها تظل شاخصة لأربعة مستويات، باعتبارها محددات أساسية لفعلية الحرية الأكاديمية.
- الحالة الاولى: حالة لينين الذي طرد وهو طالب من الجامعة لاحتجاجه على انعدام الحرية فيها.
- الحالة الثانية: عندما سئل فرانكو سانشيز ما الديكتاتورية فأجاب ان تجعل المثقفين والمفكرين يصمتون.
- الحالة الثالثة: المأساة الأولى لحرية الفكر مع إعدام سقراط وأثره على أفلاطون حيث كان هذا الأمر سببه في التهجير، والفرار من أثينا إلى صقلية ثم إلى مصر والى ايطاليا ليؤسس الأكاديمية بناء على روح الانفتاح وعلى النقد والمناظرة.
- الحالة الرابعة: تعرض الإمام مالك في عهد هارون الرشيد لمواقفه الصلبة الصارمة و اشهر الى قولته الشهيرة عندما طلب منه تدريس أبناء هارون الرشيد الامين و المامون “ان العلم يؤتى ولا يأتي”.
انطلاقا من هذه الحالات الأربع هناك أربعة محددات لفعلية الحرية الأكاديمية:
- مشاركة الطلاب وأعضاء هيئة الجامعة في الأنشطة السياسية والثقافية.
- تكريس الحق في المجال العام داخل الجامعة، كالحق في التجمع السلمي، كالحق في الاعتصام والتظاهر والإضراب.
- استقلالية الجامعات ماديا وإداريا ومن ناحية الإشراف الاكاديمي.
- حرية البحث والتدريس وحرية النقاش والابتكار، ونشر نتائج البحث دون حذف ودون تعديل فقط لمسايرة اتجاهات السلطة الحاكمة أو الرأي العام. وكل هذا تزكيه المواثيق الدولية.
وقد ختم تدخله بنقطتين:
- الأولى هي أن الحرية الأكاديمية اليوم هي حرية من بين العديد من مواقع النضال من اجل الديمقراطية.
- النقطة الثانية والمتعلقة بمسألة الولاء التنظيمي وضرورة الاستقلالية.
ليفتح بعد ذلك المجال للأساتذة المتدخلين لبعض الإضافات والتفاعلات مع جملة من الأسئلة، وجدد مسير الندوة تشكراته لكل السادة الأساتذة بمداخلتهم التي أثارت نقاشا تفاعليا بشكل كبيرة .